المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ فَقَدَت نُورَها

عبير عباس المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 208

ها قد حلّ الظلام في المدينة المنوّرة، وخيّم الكمد على فيافيها حزنًا على رحيل حبيب الله، فتصدّعت أركانها وتضعضعت، وخلعت رداء أنوارها المضيئة، وارتدت عتمةً لا تزول، فحنين جدرانها لا ينقطع كحنين الجذع المقطوع شوقًا إلى النبيّ الخاتم الذي احتضنه فسكت، فمَن يُسكت حنين الجمادات في المدينة بعد فقدكَ يا رسول الله؟ وأنّى لنا بحضنكَ الدافئ، واحتوائكَ للكون بأسره بتلك الرحمة الواسعة من أب هذه الأمة ونبيّها. خيّم السواد على مدينتكَ الثكلى يا رسول الله، واستحال بياض الزنابق إلى سواد يحاكي دخان الحريق الذي سرى في أمتّكَ بقوّة من صنع أبناء السقيفة، وتطاير الشذا من الزهر ليبثّ رائحة الفقد المريع، وتمايلت السنابل وانحنت ونفثت حنطتها حزنًا كلّما نفثت زهراؤكَ حزنها، وبثّت لوعتها في براري المدينة التي عمّ السواد طرقاتها، فأخرجوها منها؛ لأنّ صوت الحوراء الإنسية الثكلى قد أزعجهم ولمّا يبرد تراب ملحودتكَ! نحن الطيور قد أحطنا بزهرائكَ بحنوّ حينما كانت تنشج ألمًا، وتتنهّد كربًا، وتزفر حزنًا، وشاطرناها عزاءها فيكَ حتى اعتزلت في بيت أحزانها، فكنّا نسمع صوتها وشجوها، ونحلّق حول بيت أحزانها هائمين، ونغرّد معها بترانيم حزن عميق مواساةً لها. سيّدي، مدينتكَ المنوّرة أصبحت موحشة من بعدكَ ومن بعد عترتكَ، وبعد أن فقدنا صوت بلال الذي يتردّد في الأرجاء صادحًا بالأذان في مواقيت الصلاة، فازدادت المدينة وضواحيها وحشةً وغربةً، وتجدّد حزننا عليكَ عندما انقطعت فاطمتكَ عن بيت الأحزان ولازمت فراشها، وأُترعت سقمًا وهمًّا من أمّتكَ، حتى سمعنا صوت الأذان الأخير لبلال الذي كان بطلب من مولاتنا فاطمة (عليها السلام)، فعلمنا أنّه أذان الوداع، وقرب اللقاء بكَ، وحلّ الظلام الحالك مرّة أخرى على مدينتكَ، ولم يبقَ لنا إلّا نور عترتكَ الطاهرة، نستضيء به حتى بزوغ النور الأكبر، حفيدكَ الموعود؛ ليعيد أنوار مدينتكَ بإحياء شريعتكَ ودينكَ في ذلك اليوم الموعود. ........................................... (1) راجع مناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، محمّد بن سليمان الكوفيّ: ج١، ص٩٧