رياض الزهراء العدد 185 الحشد المقدس
العَهدُ الأَخِيرُ
زمجرة المدافع تهزّ أركان المدينة حتى أنّها أفسدت ذلك السلام المنبعث من دفء البيوت، أعمدة الدخان المتصاعدة طرّزت بخيوطها السوداء ثوب السماء، وتكبيرات تدوّي في الأرجاء، يخيّل إلى سامعها أنّها أذكار تبعث الطمأنينة في النفوس، إلّا أنّها ما عادت هكذا، فقد عبثت بها أيدٍ مسمومة لتجعل منها كلمات جوفاء، تحمل في طياتها غلّ نفوس شرّيرة. هكذا كان يتمتم عليّ وهو يبثّ أشجانه إلى رفيقه الجريح محمّد، وهو الآخر قد أنكفأ منزويًا على نفسه، اختار الصمت أو لربّما اختير له ذلك، فكان كلّ شيء فيه هادئًا إلّا عينيه اللتين كانتا تفصحان عن غير ذلك، فيبدو أنّه كان يغصّ بالأحاديث، إلّا أنّ الحروف قد أضاعت طريقها إلى فمه، فلم تجد بدًّا من المكوث هناك. أزيز الرصاص عاد ليعلو مجدّدًا، فوحده مَن كان الحديث متاحًا له، ما عادت الجدران لتحتجز صداه بين أركانها، حتى ضاعت معه أصوات الطفولة الحالمة وأنّات الأمّهات. وقع أقدام تقترب شيئًا فشيئًا من مقرّ محمّد وعليّ الذي اتّخذاه حصنًا لهما، أنفاس تتصاعد في الصدور، عيون تختلس النظرات تنبئ عن وداع قريب، اقترب محمّد من رفيقه عليّ وهو يزحف منبطحًا على بطنه، يتعكّز على بقيّة قواه، ودماؤه تركت بصماتها في زوايا المكان كلّها، صاح محمّد بعليّ بصوتٍ متهدّج: اذهب، اذهب، ما عساكَ تنتظر؟! حملق به الآخر قائلًا: إلى أين أذهب وأنتَ على هذه الحال؟! لن أدعكَ هنا وحيدًا لتكون طُعمًا في شراك العدوّ، فإمّا أن نموت معًا، وإمّا أن نرحل معًا! أجاب محمّد: وبأيّ قدمين عساي أن أفرّ؟! إنّي أرى أجنحة الموت قد خفقت على رأسي، ولا أرى إلّا حتفي قد اقترب، اذهب يا رفيقي وفتّش عن بصيص أمل بين خربات المدينة، واشترِ لأطفالنا ولو كسرة من الأمان تسدّ بها رمق خوفهم. همّ عليّ بالخروج، فألقى آخر نظرات الوداع على رفيقه، فكانت العيون تنطق بكلّ شيء بعد أن بُكِمت الأفواه. راح عليّ يسير في الأزقّة الضيّقة والمعتمة لكيلا يقع في قبضة الأعداء، وهكذا نجا حتى توارى عنهم بعيدًا، وبعد ساعات من السير المتواصل قرّر أخيرًا أن يستريح؛ ليستجمع ما تبقّى من قواه، سرح به الخيال نحو رفيقه محمّد، واسترجع وصاياه الأخيرة له، كأنّها أشعلت فيه شرارة الثأر، فعاود المسير، ولم تمضِ إلّا بُرهة حتى اقترب من مقرّ سريّته، فتعرّف عليه الأصدقاء، وأسعفوه وداووا جراح جسده إلّا جراح قلبه، فأنّها تتجدّد في كلّ لحظة وهو يذكر رفيقه محمّدًا، أو كلماته تلك. لم تمضِ إلّا أيام معدودات حتى أحكمت قوى الأمن سيطرتها على محور (بيجي) بعد معارك ضروس، وقد أفلتت منها أعداد كثيرة لتعود تلك المنطقة إلى أحضان أبنائها. لم يكن النصر ضالّة عليّ الوحيدة، فهو يبحث عن شيء آخر، بدأ يطوي المسافات بخطوات واهنة، حتى استقرّت به قدماه هناك، حيث آخر لحظات جمعته بمحمّد، يرى جسد رفيقه الذي غطّته الرمال والدماء معًا، حتى إنّه قد ضيّع ملامح رفيقه بين الركام، ها هو أخيرًا يجد ما يبتغيه، انكبّ على جسد محمّد وراح يئنّ ويئنّ وهو يسترجع تلك اللحظات التي ليس لها أن تتكرّر من جديد. أخذ عليّ يهمس في أذن رفيقه وهو يخبره بأول أمارات النصر، ويعاهده بمواصلة المسير إلى أن يتحرّر آخر شبر من الوطن، أو أن تتحرّر روحه فيخرّ جسدًا في الكفن، فيجدّد العهد به هناك، حيث جنّات عدن.