قُبَيلَ الأُفُولِ

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 239

بين منبر النبيّ ومسجده يجلسون واجمين، بعضهم قد طأطأ رأسه أسفًا، وبعضهم يزفر دمعًا به عصفا، والعيون منصبّة على باب ذاك البيت المبارك الذي بدا لهم كشمس طالها الكسوف، بعدما انتشر بينهم كالليل البهيم ذاك الخبر المشؤوم: إنّ سيّد المدينة قد غالته يد السمّ التي اعتاد أهل الحكم الجائر أن ينالوا بها ممّن لا يستطيعون النيل منه إلّا غدرًا.. الأنفاس تصعد وتهبط، والنفوس حرّى، والأكباد تتلظّى، حتى لكأنّها جميعًا متّصلة بوريده، وكيف لا تكون وقد شغفهم حبًّا وإكبارًا بتقواه وجوده، وهو الرضيّ الزكيّ الذي كان ولا يزال أبًا وأخًا وكافلًا لكلّ مَن قصده، ومَن لم يقصده من البشر.. ريحانة الرسول، وبكر حيدر والبتول، وأول السبطينِ المنتجبَينِ الطاهرينِ الزكيّين الحسن والحسين (عليهما السلام).. فواهًا لكِ يا مدينة النور من هذا الظلام المُحدِق، فلقد مرّ عليكِ من رزايا الدهر ما ناءت به جوانبكِ، وغار له ماؤكِ المعين، وكنتِ تتوسّلين بهذا الطيّب ابن الطيّبين لينتشلكِ ممّا غصتِ فيه لسنين، فمَن لكِ الساعة وقد وقف على شفير الدنيا مودّعًا ثمالتها، وهو لمّا يجاوز بعدُ السابعة والأربعين من عمره الشريف؟! هو ذا البيت النبويّ، لا يزال على سكونه وهدوئه، كالبحر قبل العاصفة الجموح.. الساعات تتوالى، والحسين يلازم شقيق روحه، لا يرضى عنه انفصالًا.. والعبّاس بن عليّ ينكبّ على أخويه وسيّديه، شابّ في الرابعة والعشرين، قد تفتّح زهره بينهما، وارتوى العلم والتقى من طهر زمزمهما، واستمدّ شعاع بدره من شمسهما، وها هو اليوم يكفكف دمعهما ليخلطه بدمعه، ويسترجع في ذاكرته يوم شهادة أبيه، ويعلم أنّه سيغدو اليوم يتيم أخيه، فيرى الكون ضيّق الأفق، لا يكاد يتّسع لأملٍ يسقيه، ولولا البقيّة الباقية والثمالة الناجية، سيّد هذه الذرّية الهادية، لساخ الكون بما فيه.. إيهٍ يا آل المصطفى، لقد أَفَلتْ أو تكاد في حبّكم شمس الوفا.. إيهٍ يا آل عليّ، لقد بلغ السيل الزُبى، ووصل حدّ الخيانة إلى عقر دار الوليّ، واستخدم الرجس أدواته لينفذ إلى إحدى حلائل الحسن فيمنّيها بالمال والجاه، ولم تُحرم منهما، لكنّها طمعت بالسفاهة والرفاه، وقد كانت في جنّة الخلد ترفل تحت عزّ الجباه، فإذا هي تُطرد منها طرد إبليس من فردوس الإله.. ويطلب المجتبى أن يُخرج به إلى فناء الدار، حيث لا سقف يحميه من شمس الهاجرة ولا جدار، ويسبّح الخالق الجبّار مغرورقًا بالدمع، مستشرفًا للمقبل من الأقدار، يخاطب أخاه الحسين: "لا يومَ كيومكَ يا أبا عبد الله"!(1) ولا تكاد تأفل شمس ذلك اليوم الكئيب، حتى تزلزلت أركان المدينة بالنحيب؛ لقد فاضت روح الريحانة الكبرى، ولفظ سيّد شباب أهل الجنّة آخر أنفاسه صبرًا، ليشهد جبريل مرّةً أخرى انفصام العروة الوثقى، ولينطلق صوته من جديد، معزّيًا آل النبيّ بالإمام الزكيّ، مجرجرًا أذياله خزيًا من بني آدم الذين لم يحفظوا الأمانة، ولم يرعوا عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله).. لقد فتح السابق باب جهنّم للاحق، فتعدّدت الأمكنة والأزمنة، والظالم والمظلوم واحد، فبئس الورد للوارد، ونِعم عقبى الدار للشهيد الماجد، وإنّ ربّكَ لَهُو الشاهد. ................................................ (1) بحار الأنوار: ج45، ص218.