رياض الزهراء العدد 185 من على نهر العلقمي
فُرسَانُ الطَّفِّ
نبت الوفاء على أكفّهم، وتجافت جنوبهم عن المضاجع بعد أن تعلّقت أفئدتهم بهوى المحبوب المطلق، زادهم الأوفى كان الورع ممّن ترتعد سكّان السماوات والأرض من خشيته، ثم الذوبان الكلّي في الحقّ الأعظم. إنّهم أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) والمستشهدون بين يديه، إنّهم أخلّاء من كون آخر، من طينة عُجِنت بالعشق الإلهي، شربوا حبّ الحسين (عليه السلام) مع اللبن، فنمت أجسادهم وجوارحهم من الولاء والمودّة لآل البيت (عليهم السلام)، حتّى غدَوا على هيئة الملائكة المكرّمين، عرجوا بأرواحهم إلى بارئهم بعد أن لهج لسانهم بـ(هيهات منّا الذلّة)(1)، وآثروا نصرة الدين الحنيف، وتعلّقوا بمَن عنده مفاتيح الغيب، ذي الجلال والإكرام. وأبو الفضل العبّاس (عليه السلام) الذي أبى أن يروي ظمأه بشربة ماء، أسوةً بعطش مولاه الحسين (عليه السلام) وأهل بيته، أنشد قائلًا: يا نفسُ من بعد الحسينِ هُوني وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني هذا حسينٌ واردُ المنونِ وتشربينَ باردَ المَعينِ تاللهِ ما هذا فِعالُ ديني ولا فِعالُ صادقِ اليقينِ(2) فعلاوة على إيمانه وإخلاصه للباري تعالى، كان فارسًا مقدامًا صنديدًا، وشوكة في عيون الأعداء، لمّا فشلوا في نزعها من عيونهم زرعوا الشوك في عينيه. أمّا السيّدة زينب (عليها السلام)، ابنة الدلائل الواضحات، والآيات البيّنات، بطلة كربلاء، تلك المجاهدة، الناصحة، الحرّة، الأبيّة، اللبوة الطالبيّة، المعجزة المحمّدية، والوديعة الفاطميّة، فكانت هي والحسين (عليهما السلام) بمنزلة الروح الواحدة التي حلّت في جسدين، لا فواصل بينهما! أجل، إنّه العشق الحسيني الحقيقي الذي يصنع العجائب في حياة الإنسان، فهكذا عاش هؤلاء الأبرار الطاهرون، وهم أسمى من الأقوال، وأكبر شأنًا من الثناء، بل يعجز اللسان، وتجفّ بحور الحبر في وصفهم، ونعت بطولاتهم ومواقفهم الإلهية في ميادين الكفاح الخالد، فقد تميّزوا في نشر حقيقة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وظلامته. اعتمد الإمام الحسين (عليه السلام) على قوّة المنطق، واعتمد عدوّه على منطق القوّة، وقبل عاشوراء كانت كربلاء اسمًا لمدينة صغيرة، أمّا بعدها فقد أصبحت عنوانًا لحضارة إنسانية شاملة، فشباب كربلاء كان همّهم الصمود في الأهوال، والصبر في البأساء، وهدفهم الاستشهاد بحدّ السيوف نصرةً للدين، راغبين عن مباهج الدنيا الدنيّة، وزخرفها وزبرجها. سيّدي يا حسين، كلّما أغرقنا في البكاء عليكَ وعلى المستشهدين بين يديكَ، فلن ينطفئ جمر قلوبنا، فأنّكَ بحقّ سيّد الانتصارات. ............................... (1) بحار الأنوار: ج ٧٤، ص ١٦٢. (2) مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف الأزديّ: ص179.