يَا لَقَسْوَةِ المَشهَدِ
وانقلبت الطاولة على يزيد بعد أن ارتقى الأعواد الإمام الناجي من الكارثة، فأَسَره ببليغ حجّته وبرهانه، وبيّن فظاعات ما أحدث وانتهك، فسخط الناس عليه، وتقلّبت قلوبهم، فخاف الفتنة، وأمر بإعادة السبايا من آل البيت (عليهم السلام) إلى الحجاز، لكن أنّى للزمن أن يعيد ما كان، أو أن يرجع مَن رحلوا، إنّ ما حدث قد قتل مَن بقي، وليس مَن استُشهد! فاجعة ترافقهم إلى الأبد، فمن وراء المحامل كان أنين النسوة لا ينقطع، فآلام مبرحة تنتشر في أجسادهنَّ المحمرّة، والمزرقّة، والمسودّة. الحركة المتواصلة تؤذيهنَّ، فلم يعدنَ يقوينَ على السفر، يبكينَ ويبكينَ؛ ليحرّرهنَّ رذاذ الدمع الذي فاض منسوبه في صدروهنَّ يوم أُجبرنَ على حبسه. جزء من وجودهنَّ قد تلاشى، فكم تغيّرنَ! لم تعد الرؤوس مغروسة في الرماح، بل غافية في حجر محبّيها، يا لقساوة المشهد! يتكسّرنَ كجليد يذوب، كقطعة ثلج تحتضن جمرًا، فينكمشن أكثر فأكثر، لم يكن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يغفل عنهنَّ أبدًا، كان دوحتهنَّ التي تظلّلهنَّ، وواحتهنَّ وغيثهنَّ، كان أمانهنَّ مثل عمّته، يتحلّقنَّ حولهما ساعة بروك الجمال، وتتحلّق هي حوله، كان يرى شرود عينيها الذاويتين ونظراتها المُطفأة، صامتة تكتنف رأس أخويها كأنّما تنكفئ على كتفيهما، يعلم كم تتهدّم، وتتشكّل، وتموت على دفعات، حينما تراهما يخالجها الشوق والعذاب، الوقت اللزج يأبى أن يتحرّك كي يصلوا، ضجيج المعركة لا يزال يملأ رأسها، ورائحة الخيام المحروقة تشتعل في صدرها، تملأ رئتيها بالدخان الذي يتكاثف في جفنيها عابرًا خدّيها المقشّرين، فيمسح دموعها بأصابعه الخشنة المتورّمة برفق شديد كي لا يؤذي وجهها المقشّر الملتهب من حرارة الشمس. متأهّبة ومتهيّبة للقاء العزيز، فالأربعون العجاف التي قضتها وهي بعيدة عنه، كانت كالأربعين سنة ما بين يوسف ويعقوب، ولا تدري كم أربعين أخرى عليها أن تفارقه بعدها! ستبقى شمسًا هاربةً تبحث عن سمائها، كان قلبها يسافر بها نحو كربلاء، لقد استبدلت الخرائط به!