رياض الزهراء العدد 185 ألم الجراح
تَأَمُّلاتٌ فِي الجِراحِ الرَّضَوِيَّةِ
مع ساعة السحر الممزوجة بترانيم الدعاء، أتأمّل قبّةً لها شعاع مستديم، ينساب كشفق يغطّي الأفق، يخطف كلّ سمع وبصر.. حاولتُ أن أغافل شمسًا تعجبي بشروق مآذنها المتلألئة قبل أن تدرك مواطن اليقين من نفسي.. فأطرق حياءً أمام عظمة هذه البقعة المباركة التي ما تفتأ تودّع ذكرى، حتى تعود أخرى مع تنفّس هلال جديد.. فيلبسها الذبول، ويعتريها الشحوب، ويهدّ أركان صبرها.. فأستمع إلى تحرّك الكلمات التي حفرها الزمان على جدرانها كبصمات تنطق بالألم ثائرة، دامعة, يتخلّلها أنين تهتزّ له الأعماق.. تصف بحسرة الساعات الأخيرة لذلك الحبيب حين تنطق شفتاه المتشقّقتان من حرارة السمّ: "اللهمّ إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت، فعجّل لي الساعة"(1). ولم يزل يغمرنا بعطائه بأن يوصينا بما ينجينا من البلاء، متناسيًا ما فيه من الألم، حتى فاضت روحه ألقًا، ورفرف السلطان بجناح الإيمان إلى حيث رياض الجنان.. ليفقد الكون أغلى ما في الوجود بعد أن سلب حقّه، ولم يراعِ حرمته.. وفي تلك اللحظة الأليمة.. لحظة شهادة الرضا (عليه السلام) التي اكتسحت كلّ بيت في سامرّاء.. ولم يسلم من أوجاعها أحد، حتى تصدّعت جدران سامرّاء الحنون، وتزلزل كلّ ركن فيها.. فأقف في حيرة على غير عادتي.. أقف على باب مرقد العسكريّين.. وفي فؤادي عاصفة من مشاعر الحزن والألم التي تتراءى لي صورها بهالة طهر قد تكلّلت بها الحضرة المقدّسة.. فأقف عاجزًا منكسرًا.. أخشى أن أوقف سلسبيل حديثها الذي بدأته منذ ساعات الفجر الأولى.. فأقاطع ذلك البلسم الطاهر المنسكب فوق ثراها؛ لتبدأ بالعروج إلى آهات قدسية.. لتصل هناك، إلى مدينة طوس حيث أنيس النفوس.. فتنثال كلماتها الحزينة الممزوجة بالدموع تسابيح قدسية تبرئ جراح المحبّين ببلسم العزاء.. .................................................... (1) بحار الأنوار: ج49، ص 140.