رياض الزهراء العدد 186 تنمية البشرية
الهَدْرُ
مَن منّا لم يطرق سمعه في يوم من الأيام كلمة (الهدْر)، التي تعني الساقط الباطل، وفقدان الأمر، وعدم التمكّن من استرجاعه مجدّدًا، فمن المُؤكّد أنّنا سمعناها كثيرًا، بل تلفظّنا بها للإشارة إلى كثير من الأمور التي ضاعت من بين أيدينا، وانسابت من بين الأصابع، فذهبت إلى غير رجعة، يصاحب أغلبها شعور بألم الفقد والندم. كثيرة جدًا هي موارد الهَدْر، منها ما يكون في الطعام، الأموال، الأملاك العامّة، العلاقات، وغيرها الكثير الكثير، ومنها ما قد نلاحظه وندركه، ومنها ما يتلاشى تدريجيًا بلا شعور، ومن المحتمل أن لا تتمّ الملاحظة إلّا عن طريق الآخرين، بحيث يقومون بمحاولة لإيقاظ الشخص قبل فوات الأوان، ومحاولة التشبّث بما يمكن الإمساك به ولو كان في الرمق الأخير، ومن تلك المحاولات هي المساعي التي يبذلها الأهل والقائمون على التربية؛ لإنقاذ فرد من العائلة وصل إلى شفا حفرة من هدر ساعات عمره، وذلك عن طريق ذوبانه واتّحاده مع الأجهزة الذكية التي أوصلت بعض مستخدميها إلى درجة يكونون معها عبيدًا لها، ونُسخًا متطابقة بعضهم مع بعضٍ. ولعلّ من أخطر أنواع الهدر هو هدر الوقت الذي يتضمّن كلّ سجّل الأفكار والأعمال، حيث يشكّل جواز المرور للحياة الأبدية، مثلما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت»(1)، فحريّ بنا جميعًا أن نتوخّى الحذر في كيفية التعامل مع تفاصيل حياتنا التي تشكّل هيئة العمر وتكوينه، وما سيؤول إليه العبد من جرّاء هذا التعامل. ونعرّج على النوع الأخطر من الهدر، وهو (الهدر التربويّ)، ويعني وجود خلل في التوازن الوظيفي للعملية التعليمية، فيصبح حجم مدخلاتها أكثر بكثير من حجم مخرجاتها، فنجد الأعداد المتزايدة من المدارس والجامعات والمعاهد التي يتخرّج فيها سنويًا آلاف الطلبة، ويُزجّ بهم في نواحي متفرّقة من المجتمع، وفي أغلب الحالات لا نلمس أيّ مردود علمي واضح لهم على أرض الواقع، فيكونون مجرّد أرقام متسلسلة لشهادات ورقية لا تسمن ولا تغني من جوع، ومن الممكن أن نرى الهدر التربويّ جليًّا في مراحل الدراسة الأساسية عن طريق نِسب الرسوب، أو الانقطاع والتسرّب الدراسي وما يصاحب هذه الأمور من تردّي المستوى العلمي للطالب في ظلّ عدم اكتراث الأهل. فالهدر التربوي مع هدر الوقت يساوي مجتمعًا يسوده الجهل المقنّع، فهل من متصدٍّ لأنواع الهدر؟! .......................................... (1) بحار الأنوار: ج ٦٨، ص١٨٠.