حِكَمُ الجَدَّاتِ

دلال كمال العكيليّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 167

تختلف رائحة الجدّات وطعامهم وملابسهم وفراشهم عن سائر الناس، إذ تكون الجدّة مميّزة في كلّ شيء، فهي الملاذ الآمن من غضب الآباء، والحصن المنيع الذي لا يجرؤ أيّ شخص على أن يتعدّاه، فما إن يشعر الأحفاد بخطر العقاب حتى تأخذهم أقدامهم إلى الاختباء خلف تلك السيّدة التي تتّخذ من مدخل الدار مجلسًا لها، وبجانبها عصاها التي تتّكئ عليها، وتدافع بها عن تلك العصبة من أحفادها. تعلّمنا منذ الصغر أن نشاطر الجدّة الفراش والطعام والشراب، فتجلس ويحيط بها ذلك الجمع الغفير، يشاركونها الطعام، ويستمعون إلى أحاديثها الشائقة المليئة بالعِبر والمواعظ، وتجارب الماضين، وتكون عبارة عن سرد بمفردات بسيطة تدخل القلب وتلامس الروح وترسخ في البال. كان لمجلة رياض الزهراء (عليها السلام) جولة في ذاكرة الماضي مع جمع من النساء اللاتي شاركنَ بكلمات عن الجدّات: البداية كانت مع السيّدة خديجة ياسين (50عامًا): تزوّجت منذ 33 عامًا، ورسخت في ذهني كلمات ألقتها جدّتي عليّ منذ (30) عامًا، إذ أوصتني بالتعاون مع زوجي وإعانته في الحياة لبناء أسرة متكاملة صالحة، فكانت رحمها الله تؤكّد على أن يكون مالنا مشترَكًا، وحثّتني على التوفير والتدبير والتفكير في كلّ شيء قبل الطلب، فلا أشتري أيّ شيء إلّا بعد مرور ثلاثة أيام على طلبها، فاذا مرّت الأيام وأنا ما أزال أريدها فأشتريها، وإذا تغيّر رأيي، فهذا يعني أنّي لستُ بحاجة إليها، وفعلًا اعتدتُ تطبيق ما علّمتني إياه، وأنا الآن أمّ لـ(6) أولاد متزوّجين، ولديّ من الأحفاد (6)، أروي لهم ما روته لي جدّتي. أمّ تقى: لا توجد كلمات تفي بالتعبير عن جدّتي، تلك النخلة الشامخة المعطاء، فكلّ شيء جميل أعيشه اليوم هو بفضلها، فلا يمرّ يومي من دون ذكرها، ولم أدرك ذلك حتى تزوّجتُ وأصبحتُ أمًّا، فعرفتُ قيمة كلّ ما بذلته من أجلنا، فقد غرست فينا حبّ الدين والأخلاق، وحبّ أهل البيت ، وعلّمتنا شؤون الحياة، كالتدبير، وحُسن الحديث، وحبّ الخير للناس، وغيرها من الأمور حفظها الله فاطمة صالح: كانت جدّتي امرأة مؤمنة مواظبة على الصلوات الخمس، وأكثر ميزة أتذكّرها منها أنّها كانت تمقت الغيبة، وتحبّ أن تعمل بدون كلل أو ملل، نظيفة الثياب، طاهرة البدن على الدوام، متعاونة، تساعد النساء من أقاربنا أو جاراتنا، فحين تسمع بأنّ فلانة وضعت مولودًا تذهب للعناية بها حتى تستعيد عافيتها، كانت بيضاء القلب، عطوفة، تحبّ إخوتي جميعًا، وتخاف عليهم رحمهما الله برحمته الواسعة أمّ حسين: رسمت تلك التجاعيد على وجهها مسيرة (80) عامًا من الجهاد، كانت جدّتي رحمها الله امرأة عاملة، وربّة بيت من الطراز الأول، فهي أمّ لعشرة أولاد، منهم التاجر، والمهندس، والعسكريّ، والمعلّمة، وربّة البيت، كنتُ ألحظ كلّ صفات تلك العجوز في والدتي، إذ كانت سيّدة بيت متميّزة، وصاحبة عقل تجاريّ راجح، كيّسة حكيمة في تصرّفاتها، وما تتعرّض له، لمست انعكاسات تربية تلك الجدّة على (10) من العوائل، فكلّ منهم انتهج نهج تلك العلوية الصابرة المجاهدة التي قاست من ظلم الحقبة الصدامية الظلماء ما قاست؛ لتعود بعد هجرة استمرّت لأكثر من (20) عامًا؛ لتُدفن في أرض الوطن، صابرة محتسبة، بعدما فقدت الأحبّة بين مهاجر ومعدوم على يد النظام البائد، تلك السيّدة تركت لنا إرثًا عظيمًا، فهي معلّمة، سواء في حياتها، أو بعد وفاتها، فرحمة الله عليها إلى يوم يُبعثون. اتّفق الجميع على أنّ الأجداد مصدر للحكمة والدروس والعِبر، هم مصدر للمعرفة، وبركة المنازل، وعطر الجنّة، ويجب علينا برّهم مثلما نبرّ الوالدين، ولهم حقّ في التربية مثلما للآباء، فالأحفاد حصاد العمر، وعليهم تقدير وجود تلك النعمة عبر الإحسان والتقرّب إليهم بالودّ والحبّ والإنفاق عليهما بما تيسّر، وحفظ كرامتهم، فهم ميراث الأسرة وتاريخها، وإن كان هناك حالات على عكس ما ذكرنا، من قسوة وبغض، فبعضهم يحتفظ بذكريات مريرة مع الأجداد ومن التفكّك الأسري منذ الطفولة، فعلينا الالتفات إلى هذا الأمر ومحاولة تجاوزه بالعفو والصفح، ومعاملتهم بالحسنى والتجاوز عمّا مضى، وبذلك يعيش الإنسان سعيدًا بالعفو والتجاوز، ويؤسّس أسرة جديدة مباركة.