رياض الزهراء العدد 186 الحشد المقدس
النَّجاحُ مِن مَنظُورٍ آخَرَ
كأشجار السنديان جمالًا وقوّة ازدانت حياتي به، ولدي البكر (حسام)، به كنتُ أشدّ أزري بعد وفاة أبيه، وأستند عليه في صعاب الظروف على الرغم من حداثة سنّه، ابتسامته المرتسمة على محيّاه، لا يمحوها غبار الأيام الحبلى بالمواجع والتعب بين الدراسة والعمل، وما بين كتابه وإبرته خاط لحياتنا ثوب الكفاف، فقد كان يعمل خيّاطًا في مشغل أبيه بعد رحيله. وعلى الرغم من مسؤولية العمل والدراسة في مرحلة السادس العلمي كان قليل النوم وكنتُ أراقبه ليلًا، لم يكن ينام تلك السويعات القليلة قبل الفجر، يجلس على مصلّاه والدموع تملأ عينيه، ظننتُ أنّه يشكو إلى الله تعالى مسؤولياته، كان يبكي ويبثّ حسراته وآهاته حتى الفجر، فيصلّي الفريضة وينام سويعات قبل الذهاب إلى المدرسة، كنتُ أدعو له كثيرًا بحسن العاقبة؛ لأنّه وان كنتُ أعمل في التجهيزات الغذائية لأعينه على المعيشة، إلّا أنّه كان يرفض عملي معلّلًا ذلك بأنّني وإخوته الثلاثة الصغار من مسؤوليته، وهو رجل البيت. وفي إحدى الليالي سمعتُ نشيجًا عاليًا، فأسرعتُ إليه، وجدتُه على مصلّاه كالعادة، أصغيتُ قليلًا لأنّ صوته كان عاليًا نوعًا ما، وجدتُه يناجي الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ويبثّه شوقه وحنينه وعشقه، كان حديث عشق أكثر منه شكوى، فرحتُ كثيرًا واطمأنّ قلبي لأنّ قلب ولدي متوجّه إلى إمامه، وحتمًا سيأخذ بيده حتى نهاية الطريق، لم أعد أفكّر في مستقبله كثيرًا؛ لأنّي كنتُ واثقة بأنّ الإمام سيحيطه بنظرة أبويّة رحيمة. عشتُ ذلك الاطمئنان الروحي إلى اليوم الذي أصرّ فيه على الالتحاق بالحشد المقدّس، وكنتُ أرفض رفضًا قاطعًا معلّلة بأن يهتمّ بدروسه وامتحاناته وعمله، فهو أفضل من الدفاع؛ لأنّه رجل البيت ومعيلنا، كان يمسح على رأسي بأنامله، ويبتسم قائلًا: - يا أمّاه، وثيقة شهادة الآخرة خير من وثيقة الدنيا، وامتحانات الآخرة أولى بالتفكير بالنجاح فيها من امتحانات الدنيا، والشهادة توفيق ما بعده توفيق. ثبتتُ على موقفي بالرفض حتى أكمل امتحاناته، وقرّر الانضمام إلى فصائل الحشد، كان اندفاعه عنيفًا هذه المرّة لم أستطع مقاومته، فوافقتُ على مضض. وفي أحد الأيام وصلتني رسالة منه مع زملائه: «أمّاه، تعلمين أنّني مجتهد في دروسي، ودرستُ جيدًا من أجل الامتحانات، وأنا واثق بأنّ معدّلي عالٍ، وإن شاء الله سأرفع رأسكِ، لكن كان لديّ امتحان آخر أصعب بكثير من امتحانات الدنيا، وآمل أنّني تفوّقتُ فيه أيضًا لأنّني كتبتُ الأجوبة بدمائي، هوّني عليكِ يا أمّاه فأنا أراكِ وإخوتي، وأدعو لكم، فلا تبكي عليّ، ولا تشقّي عليّ جيبًا، وتأسّي بمولاتنا زينب(عليها السلام)، ولا تقولي إلّا جميلًا، ولا تنسيني من دعائكِ». علمتُ باستشهاده وعملتُ بوصيّته، وعندما استلمتُ نتيجة امتحاناته الوزارية كان معدّله ٩٨%، لم أفرح بقدر نجاح ولدي في امتحانه الأخروي، فنجاح الشهداء له منظور آخر يختلف عن حساباتنا المادّية، وجدتُ حسابات نجاحه في دفتره الصغير الذي سلّمه لي أصدقاؤه وهو يعدّ عدد المرّات التي جبّ عن نفسه الغِيبة، وكم مرّة عوّض تقصيره في صلاة الليل بسبب الواجب العسكريّ، وكم مرّة أدخل السرور على قلب مؤمن، وكم مرّة تجرّع الغصص واحتسبها عند الله، واحتسبها عند الإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ليعينه على تحمّلها أو حلّها، وبينما مرّت تلك الخواطر في ذهني وكنتُ شاردة الفكر، سألني معاون المدرسة قائلًا: لِمَ لم تفرحي يا أمّ حسام، فابنكِ رفعة للرأس! بكيتُ وقلتُ: فعلًا إنّه رفعة للرأس، لقد رفع رأسي عند صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، ونبّأتهم باستشهاده، فبكى المعاون والملاك التدريسي، وكتبوا على نتيجته: (ناجح بتفوّق في الدنيا والآخرة).