﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾(1)
إيهٍ يا أبا محمّد، سأبثّكَ الساعة بعض همّي ونجواي، وأعلم أنّكَ على أبواب الآخرة تلوذ بيد وليدكَ وهو ابن خمس سنين، وتسلّمه مقاليد الإمامة غير ضنين، وإنّا على وداعكَ يا بن أخي لمحزونون. كلّما مرّت السنون، أيقنتُ أنّنا معشر أهل بيت النبوّة أكثر الناس بلاءً، وأعزّهم ثناءً، وأنّ الغيبة عن أحبّتنا قدر مكتوب من ربّ السماء. بالأمس حينما خرج جدّي الرضا (عليه السلام) من مدينة جدّنا المصطفى بأمر من المأمون العبّاسي، عاش والدي في غيبته أعوامًا من القهر، حتى إذا بلغ من العمر ثمانية أعوامٍ اغتال المأمون أباه ويتّمه، فغدا إمامًا على الرغم من حداثة سنّه، وبخع المتكبّرون لفضله، وتفوّق بعلمه الربّاني على رؤوس فقهائهم... ثم عاد أبي إلى مدينة جدّنا موفورًا... ووُلِدتُ وأخواي عليّ وموسى (عليهما السلام)، أنا حكيمة بنت الجواد (عليه السلام)، وكانت أمّنا سمانة المغربية من خيرة أمّهات الأئمة من بعد سيّدة نساء العالمين (عليها السلام)، ثم استدعى المعتصم أخو المأمون أبي إلى بغداد من جديد، ليدسّ له السمّ بيد زوجته الأخرى بنت المأمون، الغادرة الغيور، فقضى شهيدًا كآبائه الطاهرين، وهو في عنفوان شبابه. لقد ذقنا غيبة اليتم صغارًا، ولكنّ أخي عليًّا الهادي (عليه السلام) الذي تسلّم مقاليد الإمامة طفلًا كأبينا، صار لنا أبًا ووطنًا، وغدت سامرّاء المقفرة لنا منزلًا بعد مدينة جدّنا العامرة، لكنّ بركة الإمامة عمّرتها بالكرامة، تمامًا مثل السجن الذي زُجّ به فيه مرارًا، فكنّا نصطبر على غيبة حبسه، بعدما صار الغياب لنا شعارًا، غير أنّ السمّ بعد الحبس كان بالمرصاد، ومضى أخي الحبيب مسمومًا مظلومًا كآبائه، ولم يكن لنا إلّا الحزن لبلائه، واتّباع خليفته من بعده، أنتَ يا أبا محمّد! لقد كادت روحي تبلغ الحلقوم وإنّي بعد هذا العمر الذي قضيتُه أجاهد بقلبي ولساني في ظلّ أبي وأخي، غائبينِ حاضرينِ، أرى التاريخ يعيد نفسه، فلقد رأيتُكَ تعيش في سامرّاء حبيس بيتكَ، لتُقصى عن شيعتكَ، فتتّخذ لنفسكَ كأبيكَ سفراء، وتشرّفني بسفارةٍ من نوعٍ خاصّ؛ إذ تدعوني ذات عشيّةٍ لأشهد على ولادة طفلكَ، وأسألكَ وجلةً مستبشرة: ـ يا بن أخي، ممّن؟! وتجيبني: إنّها نرجس، بل مليكا بنت يشوعا ابن قيصر الروم، تلك الجارية الأميرة التي اشتراها أخي لكَ قبل شهادته من سبي الروم، لقد دفعها إليّ آنئذٍ لأعلّمها وأفقّهها، فإذا هي ذات علم وأدب، وإنّها لعمري جديرةٌ بأن تكون أمًّا لبقيّة الله في أرضه... وأتعجّب متسائلةً إذ لم أرَ بها معالم الحمل، فتجيبني أنّها كأمّ موسى، قد أخفى الله حملها حتى حين الولادة! رباه! لقد كتم الجبابرة عليكَ يا بن أخي كلّ سرور، ولقد تفرعنوا على أبوابكَ ينتظرون ولادة موساكَ؛ ليذبحوه مثلما ذبح حرملة رضيع جدّنا الحسين (عليه السلام)، وقد علموا أنّه المهديّ الذي سيزلزل عروشهم بنوره، ولكنّهم خسئوا، وأتمّ الله نوره وهم كارهون.. لقد وُلِد بقيّة الله على يديّ، وحزتُ بولادته وسام أمومةٍ غير مسبوقة... ولقد طالت الغيبة مولاي الصغير أيضًا، وجنّ جنون الحاكم وهو يبحث عن خلفكَ الصالح بدون جدوى، إذ أخفاه الله بلطفه، ومنَّ علينا برؤيته بين الحين والحين... على أنّ الحاقدين لم يكتفوا، بل تفجّر حقدهم سمًّا زعافًا اصطادوا به كبدكَ أيّها الحبيب، فقصفوا ورد شبابك قبل أوان المغيب. مولاي...لقد ألفنا غيبة الأولياء، وإنّا إذ نودّعكَ الساعة بغصّةٍ وبكاء، نعلم أنّ لقائمنا غيبتين، فنسأل الله أن يمنَّ علينا وعلى شيعتنا بالصبر وخير العمل حتى ظهور الأمر والأمل، واليسر بعد العسر: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا۞ إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا﴾ (الشرح:5 ـ6). ............................. (1) الشرح: 6.