إِنَّ اللهَ لا يَستَحي مِن الحَقِّ

نرجس مهدي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 226

أدور في كفّيها المتعبتين، ويرافق دوراني تسبيح وتهليل، بريق عينيها وابتسامة ثغرها، أنسى معها الدنيا، وأعيش بين أحلامها وأمنياتها. أنا مغزل قديم، يحتويني بيت طينيّ صغير، في قرية نائية في مدينة (نيسابور) الإيرانية، وسيّدة قد تفنّنت الدنيا بحفر أخاديد التعب وخطوط السنين على وجهها النحيل، شويهات وبعضًا من حطام الدنيا التي لا تُذكر هو كل ما تملك، وأنا أعينها على غزل الخيوط التي تكفيها لتعيش حرّة الذات مستغنية عن الناس، تنام كلّ ليلة على أمل اللقاء، وأسماعها تترقّب، وفؤادها ينتظر . وفي يوم الأمنيات ذاك، سمعت صوتًا ينادي من بعيد: أنا النيسابوري، وكيل الإمام، هلمّوا إن كانت لديكم حقوق أو رسائل، فالقافلة على وشك الانطلاق. تهلّل وجهها فرحًا، فلملمت دموعها، وهرول فؤادها قبل خطواتها لتأخذ خُمس مالها وترسله إلى إمامها مكلّلًا بسلامها، ومعطّرًا بهيامها؛ لتفرغ ذمّتها. توجّهت إلى وسط القرية، وأخذتني معها، فنحن لا نفترق أبدًا، والناس قد تجمهرت وتحلّقت، وكلّ يسلّم وكيل الإمام مبلغًا يصل إلى مئات الدنانير والدراهم الذهبية والفضية، والهدايا، شقّت طريقها بين الحشود بصعوبة، وقالت للوكيل: خذ منّي، وأرخت عقدةً بخمارها، وأخرجت درهمًا، وقالت: إنّه خمس مالي، وقطعة الصوف هذه التي غزلتها، هدية إلى سيّدي ومولاي لعلّها تحظى بلمسة يديه الكريمتين، نظر الوكيل مستغربًا ومبتسمًا، درهم واحد!! والله إنّي لأستحي أن أعطي مولاي درهمًا، وهمهم الجموع بين مستغرب، ومبتسم، ومتعجّب، أطرقت برأسها وقالت: إنّ الله لا يستحي من الحقّ، أبلغ مولاي سلامي، وأوصل له هديتي لعلّه يتفضّل عليّ بقبولها . رجعت إلى دارها وكلّها أمل، ومخاوف ساورت قلبها الواله، لكنّها سرعان ما تبدّدت تلك المخاوف بأمنيات كحّلت عينيها، وتراها بعين قلبها. مرّت الأيام ثقيلة، والسيّدة (شطيطة) تترقّب عودة الوكيل، أنظر إليها وهي تتنهّد، أدور في يديها، وأشفق عليها. وبينما نحن نغزل وإذا بصوت ذلك المنادي: يا أهل نيسابور، رجع وكيل الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، هلمّوا وخذوا أجوبة رسائلكم، وتجمّعوا بالقرب من بيت السيّدة (شطيطة). اضطرب قلبها، وخفق بقوّة، خارت قواها، وارتجفت يداها، وأوشكت على السقوط، ما الذي حدث ليكون التجمّع بباب دارها؟! وصل الجموع، فتحت الباب، وما إن رآها الرجل سلّم عليها، وصاح بصوت يسمعه الجميع: أيّتها السيّدة (شطيطة)، اسمعي جواب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، فقد قبل درهمكِ أيّتها المؤمنة، وقال: اقرأ عليها السلام كثيرًا، وقل لها: قد جعلتُ قماشكِ في أكفاني، وبعثتُ إليكِ بهذه من أكفاننا، فاجعليها في كفنكِ، «إنّ الله لا يستحي من الحقّ»(1)، لكنّه أرجع أموالكم على الرغم من كثرتها لاختلاطها بالحرام، أمّا هذه السيّدة فقد قبل هديّتها بقبول حسن، وأرسل إليها مبلغًا من المال ليعينها على أمر دنياها، وكفنًا قد نُسِج بأيدي العلويات، وقطنة من بستان السيّدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وسيحضر الإمام (عليه السلام) لجنازتكِ، ويصلّي عليكِ. ما إن سمعت السيّدة (شطيطة) كلام الوكيل حتى تسارعت نبضات قلبها المفعم بحبّ مولاها، وقد امتلأ دفئًا، ونالت ما أرادت وتمنّت، فظلّت تنتظر وتترقّب لترى روحها نور العيون، هذه السيّدة المجهولة قدرًا، رفع الله قدرها بحبّها لإمامها، وأوصلها هذا الحبّ إلى مبتغاها. ويوم وفاتها حضر الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وجهّزها، وصلّى عليها ثمّ انصرف(2) بأبي هو وأمّي فهل تحبّين يا أخيّتي المؤمنة أن يصلكِ سلام من إمام زمانكِ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)؟ تمسّكي بهم، ولا تستصغري القليل الطيّب، فإمامكِ مطّلع على شغاف القلوب. ............ ............ (1) بحار الأنوار: ج ٤٧، ص ٢٥٢. (2) المصدر السابق بتصرّف.