السَّمِيعُ البَصِيرُ
رُويَ عن الإمام الهادي (عليه السلام) في صفات الله تعالى أنّه قال: "...إنَّهُ يسمع بما يُبصر ويرى بما يسمع، بصيرٌ لا بعين مثل عين المخلوقينَ، وسميعٌ لا بمثل سمع السامعينَ، لكن لمّا لم يخفَ عليه خافيةٌ من أثر الذرّة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء تحت الثرى والبحار، قلنا: بصيرٌ لا بمثل عين المخلوقينَ، ولمّا لم يشتبه عليه ضروب اللغات، ولم يشغله سمعٌ عن سمع، قلنا: سميعٌ لا مثل سمع السامعينَ"(1). فمن صفاته تعالى التي أثبتها القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة (السميع البصير)، إذ قال تعالى: (...إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1)، وقوله تعالى: (...إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه:٤٦)، وهما من صفاته الثبوتية الذاتية؛ إذ إنّهما مُثبتتان لجمالٍ وكمالٍ فيه تعالى، ومُنتزعتان من ذاته المقدّسة نفسها كصفة الحياة، لا أنّهما منتزعتان من ارتباطها بالمخلوقات كالخالقية، والرازقية. ومن المعلوم أنّ عمليتيّ السماع والإبصار لا تتحقّقان في الإنسان إلّا بوجود آلات وأدوات تقوم بنقل الأمواج الصوتية والصور إلى الدماغ المادّي؛ لتتمكّن النفس من إدراكها وتفسيرها، بيدَ أنّهما لا يمكن أن تتحقّقا بهذه الكيفية في الله تعالى؛ لأنّه سبحانه منزّه عن الجسمية والتركيب، وعن الفقر والاحتياج، ولذا قال (عليه السلام): "...بصير لا بعين مثل عين المخلوقين، وسميع لا بمثل سمع السامعين" فهو تعالى يسمع، بمعنى يعلم حضورًا بالمسموعات، وكذا يبصر، بمعنى يعلم حضورًا بالمبصرات؛ وذلك لكفاية حضور المسموعات والمبصرات عند النفس المدركة في تحقّق السماع والإبصار، وأمّا الأدوات والآلات، فما هي إلّا وسائط في هاتين العمليتين، لا أنّهما السماع أو الإبصار نفسه، ومن ثمّ فإنّه سميعٌ بصيرٌ لعلمه بالمسموعات والمبصرات؛ وهذا معنى قوله: "....لكن لمّا لم يخفَ عليه خافيةٌ من أثر الذرّة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء تحت الثرى والبحار، قلنا: بصيرٌ لا بمثل عين المخلوقينَ، ولمّا لم يشتبه عليه ضروب اللغات، ولم يشغله سمعٌ عن سمع، قُلنا: سميعٌ لا مثل سمع السامعينَ" ثمّ إنّه سبحانه لا تكثُّر في ذاته، بل إنّ صفاته عين ذاته؛ بمعنى أنّ ذاته كلّها حياة، وكلّها علم، وكلّها سمع، وكلّها بصر، وهكذا، وإنّما يُطلق عليها صفات مختلفة باختلاف المعنى المُراد، وكمثال تقريبي على ذلك فإنّ شخصًا واحدًا ربّما يكون أخًا، وأبًا، وابنًا، وزوجًا، وطبيبًا، وغير ذلك، فهو بشخصه واحدٌ لا تكثُّر في ذاته، غير أنّ صفاته تكثّرت واختلفت لتكثُّر زاوية النظر إليها واختلافها، وكذا فإنّ الله تعالى واحد في ذاته، وهو سميعٌ بصيرٌ في الوقت نفسه. إذا اتّضح ذلك فهمنا معنى قوله (عليه السلام): "...إنَّه يسمعُ بما يبصرُ ويرى بما يسمعُ..."، أي يسمع بذاته كلّها، ويبصر بذاته كلّها أيضًا، وذاته كلّها سمع وكلها بصر، لا أنّ جزءًا منه سميع وآخر بصير، ومن ثمّ فلا اثنينية في ذاته تعالى، فضلًا عن التكثُّر؛ لأنّ ذاته سبحانه بسيطة غير مركّبة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "...هو سميعٌ بصيرٌ، سميعٌ بغير جارحة، وبصيرٌ بغير آلة، بل يسمعُ بنفسه ويبصرُ بنفسه، ليس قولي: إنّه يسمعُ بنفسه ويبصرُ بنفسه أنّه شيءٌ والنفس شيءٌ آخر، ولكن أردتُ عبارة عن نفسي إذ كنتُ مسؤولًا، وإفهامًا لكَ إذ كنتَ سائلًا..."(2). ........................................ (1) التوحيد للشيخ الصدوق: ج1، ح18، ص65. (2) المصدر السابق: ج1،ح1، ص245.