رياض الزهراء العدد 187 تنمية البشرية
دَفائِنُ العُقُولِ
قال أمير المؤمنين، وقائد الغرّ المحجّلين الإمام عليّ (عليه السلام) في ضمن إحدى خطبه في نهج البلاغة التي يذكر فيها خلق آدم (عليه السلام)، ويصف ما حدث له، ثم إرسال الأنبياء والرسل، إلى أن يصل بقوله (عليه السلام) إلى: "... ويثيروا لهم دفائن العقول .."(1)، وقد استوقفتني هذه العبارة، وأخذتُ أكرّر قراءتها لأكثر من مرّة، وفي كلّ مرّة أراها من جانب آخر، تحرّك في داخلي الكثير من الأفكار والأسئلة الكامنة، حتى بتُّ أتخيّل نفسي وأنا أرى الكلمات والمواقف بتقنية الصورة ثلاثية الأبعاد أو أكثر، من كلّ الجوانب الممكنة وفي كلّ الاتجاهات، فأطلقتُ العنان لليراع ليُسطّر ما يراه على هذه المساحة البيضاء. فمن الأمور المهمّة جدًا في حياتنا التي تحتاج إلى تفعيل عملي مستمرّ هي تقنية وضع علامة الاستفهام عند نهاية الكثير من الجُمل، والمواقف التي نمرّ بها في خضمّ حياتنا، فعندما أجد ابني مثلًا يقوم بسلوكيات مزعجة، أو يتلفّظ بكلمات غير لائقة، فيجب عليّ أن أبادر إلى وضع علامة الاستفهام بعد الموقف: لماذا يتلفّظ ابني بتلك الكلمات غير اللائقة؟ وعند كلّ إجابة أضع علامة استفهام أخرى لأربع أو لخمس مرّات، وربّما أكثر، وتدريجيًا سأجد الإجابة الواضحة والكاملة تبرز على السطح، ويصبح السبب جليًّا أمامي، وتلك هي إحدى الوسائل التي عن طريقها نصل إلى النقاط الكامنة خلف الحدث الذي نراه أمامنا، ونشعر بالانزعاج المستمرّ منه، في حين إنّنا نركّز فقط على النتائج، ونغفل عن الأسباب. وعند العودة إلى الجملة الأساسية لموضوع اليوم، فنستخدم علامة الاستفهام أيضًا، ونقول: ما (دفائن العقول)؟ ومَن الذي قام بالدفن؟ وما المقصود من (يثيروا)؟ ونستمرّ بتكرار الأسئلة على أنفسنا إلى أن تنفتح آفاق المعرفة أمام أعيننا، وتنقشع غمائم الحيرة السوداء، لنصل إلى برّ الأمان والمعرفة. دفائن العقول هي كلّ النِعم والخيرات والإمكانات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في عقول خلقه، وقد بعث الأنبياء (عليهم السلام) ليثيروا الجميل؛ ليكون الإنسان الصالح هو المصلح على وجه البسيطة، بينما نجده في كثير من الأحيان يدفن نور العقل عن طريق إصراره على الجهل، وعدم مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء، فيقبع في ظلماتٍ من صنع يديه، وباليدين ذاتهما يستطيع اقتلاع جذور الجهل بالإصرار، فينظر بنور العلم والمعرفة، ويستخرج الكنوز المدفونة في عقله؛ ليضيء بها طريقه، وطريق مَن حوله. .............................. (1) نهج البلاغة: ج ١، ص ٢٣.