المَوادُّ المُخَدِّرَةُ آفَةُ العَصرِ
الشريط الأصفر هو ذاك الذي يحدّد مسرح الجريمة؛ للوقوف على أسبابها عن طريق جمع الأدلّة وتحليلها، والوصول إلى الجاني، ومن ثمّ معاقبته، تحقيقًا للعدالة، ولإصلاح ما فسد من سريرته. في محاولة منّا لوضع شريط أصفر حول مسرح الجريمة أيًّا كانت، مادّية أم معنوية؛ لحصر أسبابها، ووضع حلول ومقترحات لمحاربتها؛ لضمان عدم تكرارها، وحصر تأثيراتها في أضيق نطاق ممكن للحفاظ على الأمن المجتمعي، وكذلك الروح يجب الحفاظ عليها من تلوّث فطرتها بنوازع إجرامية مكتسبة. وسنبدأ مع أحداث الجريمة أولًا، وهي: رجل قتل طليقته تحت تأثير المخدّرات بعد انفصالهما بعام واحد لمجرّد سماعه أنّ أحد الأشخاص تقدّم إلى خطبتها، وكان سبب انفصالهما تعاطيه المخدّرات أمام أطفاله الذين تجاوزت أعمارهم العشر سنوات، علمًا أنّه كان في بداية زواجه مستقيم السلوك، حتى أثّر فيه بعض أصدقاء السوء. وعبر نظرة فاحصة وسريعة يتّضح أنّ سبب الجريمة هو تعاطي الموادّ المخدّرة بشكل أساسي، إضافة إلى أصدقاء السوء، وضعف الشخصية في إدارة الأزمات والمشكلات. وسنركّز في السبب الرئيس وهو المخدّرات، وتطلق كلمة (مخدّر) على كلّ مادّة تزيل العقل وتغيّبه لاحتوائها على موادّ كيميائية معيّنة تسبّب النعاس والنوم وغياب الوعي، وهي ببساطة موادّ تسبّب الإدمان عليها، وتسمّم الجهاز العصبي للمتعاطي، ممّا تؤثر في سلوكيات الفرد وأفعاله، ومضاعفات ذلك تتجلّى بشكل بيّن على شكل تغيّرات نفسية، وذهنية، وهرمونية، ومناعية، وغالبًا ما تدفع المتعاطي إلى العنف والعدوانية في التعامل مع الآخرين، وفي أغلب الأحيان تدفعه إلى الإجرام. ويكاد لا يخلو أيّ مجتمع من هذه الآفة الخطيرة، الآخذة بالتزايد بشكل فظيع، بخاصّة في مجتمعنا العراقي الملتزم دينيًا، بعاداته وتقاليده وأعرافه. ولو عدنا إلى أسباب تعاطي المخدّرات، فسنجدها تنقسم إلى: 1ـ أسباب أسرية: تعود هذه الأسباب إلى ضعف الوازع الديني، وإهمال الوالدين، وعدم احتوائهم الأولاد، بخاصّة في مرحلة المراهقة، وعدم تفهّم نفسياتهم، إضافة إلى عدم تهيئة الأولاد وتحصينهم بالوعي والبصيرة قبل الاندماج في المجتمع، وكذلك عدم متابعة أصدقائهم وهواياتهم، وأين يقضون أوقات فراغهم، وضعف الشخصية، والتفكّك الأسري بشكل عامّ. 2ـ أسباب اجتماعية: كالتفاف الشباب حول أصدقاء السوء، وانهيار القِيم المجتمعية بشكل عامّ، والبطالة، وعدم وجود مؤسّسات أو أنشطة حكومية تستثمر الطاقات الشبابية، وضعف الأداء الحكومي في السيطرة على المنافذ الحدودية التي تدخل عن طريقها المخدّرات إلى البلد. وكنتيجة منطقية لكثرة انتشار المخدّرات في مجتمعنا، لاحظنا انتشار معدّل العنف والتفكّك الأسري، إضافة إلى انحدار القيم المجتمعية كثيرًا، وازدياد معدّل الجريمة بشكل ملحوظ، فقد ورد في آخر إحصائية لمديرية مكافحة المخدّرات والمؤثّرات العقلية أنّ أكبر حصيلة لإلقاء القبض على متعاطي المخدّرات والمتاجرين بها كانت منذ مطلع العام الحالي حتى الشهر السابع منه، بواقع (9500) شخص، بينهم (140) امرأة، و(240) حدثًا، وهو مؤشّر خطر جدًا على تصاعد نسبة الاتجار بالمخدّرات وتعاطيها لفئات مجتمعية مختلفة. وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ أنواع المخدّرات تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: المخدّرات التقليدية بأنواعها، والتي تؤخذ إمّا عن طريق الفم، أو الاستنشاق، أو الزرق، والموادّ المستنشقة العطرية مثل الصمغ، أو بعض المسكّنات والمهدّئات الطبّية، مثل المورفين. النوع الثاني: المخدّرات الرقمية، وهي أخطر من المخدّرات التقليدية بكثير؛ لسهولة توافرها على المواقع الإلكترونية، وانتشر هذا النوع في مجتمعاتنا كالنار في الهشيم للأسباب المذكورة في تعاطي المخدّرات التقليدية نفسها، إضافة إلى عدم وجود قانون يجرّم هذا النوع، مثلما هو الحال في قانون مكافحة المخدّرات التقليدية رقم (68) لعام (1956م)، والقوانين التي تلته التي جرّمت إنتاج المخدّرات، والتجارة بها وتعاطيها. ولا بدّ من توفير الحلول لمكافحة المخدّرات بشقّيها التقليدي والإلكتروني، وتحمّل المسؤولية من قِبل الأفراد والأسرة والمجتمع، كلّ من مساحة تأثيره، وبقدر إمكاناته المتاحة، وتضافر الجهود الفردية والجماعية للنهوض بالمجتمع في مكافحتها، وتطهيره منها، وتطوير المرء لنفسه ولمواهبه والسيطرة على انفعالاته، وكيفية حلّ المشكلات التي تواجهه بالوعي والفكر، واختيار الأصدقاء بدقّة، والتركيز على العمل والعائلة، وكذلك اهتمام الأُسر بالأولاد، وتوعيتهم، واحتواؤهم عاطفيًا، وتحصينهم فكريًا ودينيًا، وتعليمهم أساسيات التعامل مع الآخرين قبل دخولهم إلى معترك الحياة العملية، ومتابعتهم من بعيد بعين الثقة والاهتمام، ولا يخفى دور المؤسّسات الحكومية في استقطاب الشباب عن طريق تهيئة فرص العمل لهم، وفتح مراكز رياضية، أو علمية، أو أدبية، أو ترفيهية لاستثمار طاقاتهم، والقبض بيد من حديد على تجّار المخدّرات، والمروّجين لها، إضافة إلى وضع برامج لاحتواء المدمنين ومعالجتهم، وتأهيلهم صحّيًا ونفسيًا؛ ليعودوا إلى الاندماج في المجتمع مجدّدًا؛ لنسهم في بنائه، ونرمّم ما تصدّع منه بسبب آفة العصر التي نهشت به كثيرًا على مستويات عديدة.