لَيلُ الأُمنِيَّاتِ

منتهى محسن محمد/ بغداد
عدد المشاهدات : 193

أن تعيش تحت ظلّ مبدأ ومعتقد راسخ لهو عين الصلاح والفلاح، وأن تكون وَفق تلك المبادئ والقِيم الرشيدة شوكة في عين العدوّ لهو النصر، وما أحلاه من فوز وظفر، وأن تكون اليد الممتدّة لضرب أوكار الفساد والرذيلة، ودحر الأنجاس وأهل الكفر والمعصية لهو أعظم توفيق من الله وهدية. برز المناضل (جليل) في ساحات الوغى ليثًا من الليوث الغيارى، الملبّين دعوة المرجعية الدينية العليا، وكان عمله في القسم الهندسي يتيح له تطهير الطرق والقرى والمناطق من الألغام، وتأمينها لرفاقه الذين يشاطرونه الأفكر والرؤى السديدة، فدأب على عمله بكلّ شغف وتفانٍ وهمّة، تداعب مخيّلته رايات النصر الخفّاقة، وتشدّ من عزيمته رؤية جثامين رفاقه وهم يُضمَّخون بحنّاء الشهادة في أضرحة الرفعة والقداسة. جاءت الأوامر بالتوغّل في القرية سريعًا، حينها ارتأى (جليل) التحرّك نحو مدرسة مهجورة، يتقدّمها بيت تحيط به الحواجز الكونكريتية، وسرعان ما ارتقى سطحها مع رفاقه، وانضمّوا في حلقة يفترشون التراب وسائد وأسرّة، ويلتحفون وجه القمر غطاءً ودثارًا، ويتأمّلون في النجوم حكايات النصر المظفّرة. كانت ليلة حانية، رصدت آمال الشباب الواعية، وجمعت أحلامهم الطموحة، وأعادت شريط ذكرياتهم الماضية. ظلّ (جليل) يرصد السماء بعمق وقد تقافزت الذكريات مسرورة خفّاقة، مرّة صورة خطواته الصغيرة الأولى التي تأرجح فيها حتى سقط أرضًا باكيًا، ومرّة أخرى قبلات ابنته التي بالغت في احتضانه مرارًا وتكرارًا قبل أن يلتحق بواجبه الأخير هذا. وراح يشاطر رفاقه أهازيجهم، ومواويل النصر من على قمّة سطح المدرسة المهجورة، متبادلين أرغفة الصبر، مفترشين موائد الفرح المرجوّة، متهلّلين سعادةً، وداعين بانقشاع ليل الظالمين قريبًا. عاش كلّ الرفاق سويعات الليل على تلك الحالة من التأمّل والاستذكار والتمنّي، محتضنين أمانيّهم بباقات الورود والزنابق البنفسجية. لم تغفُ عيونهم عميقًا حتى دبّ شعاع الشمس إليهم رويدًا رويدًا، وذابت أمانيّهم بفجر يوم سيسرق فرحتهم قسرًا، وما هي إلّا ساعات قليلة حتى تهيّأ الجميع للمغادرة، وأخذوا يجمعون أغراضهم، وينزلونها أرضًا. عاد (جليل) إلى المدرسة لجلب مستلزماته العائدة إليه، ولم يعِ أو يخطر على باله أنّ ذهابه لن يكون كعودته، وأنّ للقدر بصمات منتظرة، تزفّ إليه قلائد وأوسمة من الفخر والكرامة. فناداه من بُعد ثلاثة أمتار أحد رفاقه الذي عاد هو الآخر لجلب أغراضه، وما هي إلّا ثوانٍ حتى شعر (جليل) بجسده يسبح في الفضاء كطير مذبوح، ثم ارتطم بالأرض بشدّة. عبوة خبيثة مزّقت رفيقه في الحال بعدما داس على مسطرتها جهلًا، وتناثرت شظاياها لتجد طريقها وتنغرز في جسد (جليل) من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، وأخذ الدم يتدفّق من كلّ مفاصل جسده، لا يُعرف أيّ منها أولى بالضماد. وقد شاطره الحالة عشرة من الرفاق بجراح بليغة، نُقِلوا على أثرها بالطائرات إلى بغداد. تمّ استخراج خمسين شظيّة من جسد (جليل)، وبقي منها الكثير منغرزًا فيه، فضلًا عن الحروق الخطيرة التي التهمت جلده بوحشية، الأمر الذي استدعى نقله إلى المستشفى. تشظّت تلك الأمنيّات، وتوقّفت الأهازيج بغتة، لكنّ الإرادة الحرّة الأبيّة أبدًا لن تغيب، ولن تغرب شمس المطالب الشريفة حتى تحقيق النصر أو الشهادة.