الجَدَّةُ
أطأطئ الرأس بحضرته وأنا أمشي على استحياء، وأفكّر: ـ أحقًّا أنا هنا، تظلّلني وإيّاكَ يا بن رسول الله سماء واحدة؟! وتنبسط تحت الأقدام أرض واحدة؟! مع أنّني لستُ أكثر من حبّة هباءٍ منثورةٍ ما بين السماء والأرض عند هذه العشيّة الباردة! أراه ينظر إليّ، فأستكثر ذلك على نفسي، وأراه يتنحنح، وأنصتُ لصدى صوته يخترق سمعي الأبحّ: ـ سُلَيل!... تُحتبس أنفاسي... أهو اسمي أنا يتطفّل على تينك الشفتين المقدّستين، ويتطهّر ويتعفّر؟! ـ "سُلَيل، سُلّت من كلّ آفة وعاهة، ومن كلّ رجسٍ ونجاسة..."(1). أتنفّس الصعداء، لقد اختارني إذًا، بعدما شاء الباري أن أصل إلى هذا المكان في جملة الجواري؛ ليقرأ هذا الحبيب ابن الأحبّة سِفر أسراري، وينتشلني من لجّة أقداري... مجهولة كنتُ حتى عرفني، حتى عند نفسي العارفة بحقّه وحقّ آبائه، وقليلة كنتُ حتى كثّرني بمننه وآلائه، وصغيرة كنتُ حتى كبّرني بسؤدده وعليائه... سُليل، ومَن سُليل يا مولاي لولا سلالتكم الطاهرة؟! عُجنت طينتها بماء محبّتكم، وغدت برؤيتكم لربّها ناظرة، ولنعمته الجزيلة شاكرة، ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمدّه الله تعالى من بعده سبعة أبحر ما استطاعت سُليل أن تفيَ حقّ نظرة واحدة ترمقها بها عينكَ الباصرة أيها الهادي النقيّ، فترتعش وتنتابها حمّى العشق العلوي، وتغدو على أعتاب مولاتها الزهراء (عليها السلام) ساجدةً... ويتوّج الهادي النقيّ بنبرته النقيّة الهادية قَدَري المتشوّق لعطائه السخيّ: "لا تلبثينَ حتى يعطيكِ الله عزّ وجلّ حجّته على خلقه الذي يملأ الأرض عدلًا بعدما مُلئت جورًا"(2). ربّاه! أفي حلم أنا أم في واقع؟ أيّ رؤيا عاطرة أرى وأسمع، وأيّ كلام يسكبه مولاي في وجداني المتعطّش لهذا المنبع! وتتوالى الأيام، وتجمعني بالإمام ابن الإمام أواصر عشقٍ أبديّ، فهو لي زوجٌ ووليّ، وأنا لولده الحجّة من بعده أمّ، وكذا لحفيده المهديّ... وتستقبل مدينة المصطفى ولدنا الحسن بن عليّ (عليهما السلام) في يوم الجمعة في العاشر من ربيع الثاني؛ لتبزغ بولادته المباركة شمس الإمام الحادي عشر، والد الإمام المنتظر، وأنا (الجدّة) والمبلّغة عن ولدي وإمامي الحبيب الغائب المستتر! أيّ كرامة خصصتَني بها يا مولاي؟ أن أغدو في رحابكم نخلة شامخة بعزّتكم، عميقة الجذور بمعرفتكم، تتدلّى أعذاقها ناضجة بمحبّتكم، روحها متّصلة بجنابكم، هي منكم وإليكم، تؤدّي لكم وعنكم، قد جعلتموني مفزع الشيعة بعد استشهاد ولدي الحسن العسكريّ (عليه السلام)، مسمومًا مظلومًا كآبائه، فعضضتُ على الجرح النديّ، وربطتُ قلبي برباط الصبر الزينبيّ، وحملتُ على عاتقي همّ الإمامة على النحو الذي ظننتُ أنّه يرضيكم عنّي، فهل يا ترى قد وفيتُ؟ مولاي! جوابكم في ضمير ولدنا الحجّة ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ وأسأل الله تعالى أن أكون قد وُفِّقتُ لما خُلِقتُ من أجله، أنا (سُلَيل)، أمّ أبي محمّد الزكيّ العسكريّ، جدّة الإمام المهديّ (عليهم الصلاة والسلام)... ............................................................. (1) إثبات الوصيّة للإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): ص305. (2) منتهى الآمال: ج2، 520.