رياض الزهراء العدد 78 بحوث إسلامية
العَقلُ وفَضلُه
إنّ أعظم العلوم خطراً وقدراً، وأعمّها نفعاً ورفداً، ما استقام به الدين والدنيا، وانتظم به صلاح الآخرة والأولى؛ لأنه باستقامة الدين تصحّ العبادة، وبصلاح الدنيا والآخرة تتمّ السعادة. إنّ اتّباع أمثال الحكماء وجواب البلغاء أمر معهود ومُهم؛ لأن القلوب ترتاح إلى الفنون المختلفة، وتسأم الفنّ الواحد، وقد قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): "إنّ القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة"، لكلّ فضيلة أسىً، ولكلّ أدب ينبوعٌ، وأساس الفضائل وينبوع الآداب هو العقل الذي جعله الله سبحانه وتعالى للدين أصلاً وللدنيا عماداً، فأوجب التكليف بكماله، وجعل الدنيا مدبّرة بأحكامه، وألفّ به بين خلقه مع اختلاف هممهم ومآربهم، وتباين أغراضهم ومقاصدهم، وجعل ما تعبّدهم به قسمين: قسماً وجب بالعقل فوكّده الشرع، وقسماً جاز في العقل فأوجبه الشرع، وكان العقل فيها معياراً، ورُوي عن النبي (صلى الله عليه وآله)أنه قال: "ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويردّه عن ردى"(1). وروي عنه (صلى الله عليه وآله)أنه قال: "لكلّ شيء دِعامة، ودِعامة عمل المرء عقله" فبقدر عقله يكون خطر عبادته لربه، أما سمعتم قول الفاجر عند ندامته (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)/ (الملك:10)". وقال الأدباء: (صديقُ كلّ امرئ عقله، وعدوّه جهلُه)(2). وقال بعض البلغاء: (خيرُ المواهب العقل، وشرُّ المصائب الجهل، وأنّ بالعقل تُعرف حقائق الأمور، ويُفصل بين الحسنات والسيئات، وقد ينقسم على قسمين: غريزي ومكتسب، فالغريزي هو العقل الحقيقي، وله حدّ يتعلق به التكليف لا يجاوزه إلى زيادة ولا يقصر عنه إلى نقصان، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان، فإذا تمّ في الإنسان سُمي عاقلاً وخرج به إلى حدّ الكمال). وأمّا المكتسب فهو نتيجة اكتساب النظريات واختزانها في العقل الغريزي فالعقل الغريزي، هو الأصل الذي خلقه الله، والمكتسب هو الفرع الذي تمّ ونما بوجود الأصل، فإذا اجتمعا قوّى كلّ منهما صاحبه. اختلف الناس في وصف العقل، بعضهم يقول: هو جوهر لطيف، يُفصل به بين حقائق المعلومات، واختلفوا في محاله، فقالت طائفة منهم: محلّه الدماغ؛ لأن الدماغ محلّ الحس، وقالت طائفة أخرى: محله القلب؛ لأن القلب معدن الحياة، مادة الحواس، وهذا القول في العقل بأنه الجوهر اللطيف فاسد من وجهين: الأول: إن الجواهر متماثلة، فلا يصحّ أن يوجب بعضها ما لا يوجب سائرها، ولو أوجب سائرها ما لا يوجبه بعضها، لا يستغني العاقل بوجود نفسه عن وجود عقله. والثاني: إن الجوهر يصحّ قيامه بذاته، فلو كان العقل جوهراً لجاز أن يكون عقل بغير عاقل، كما جاز أن يكون جسم بغير عقل، فامتنع بهذين أن يكون العقل جوهراً. وقال آخرون: العقل هو المدرك للأشياء عَلى ما هِي عَلَيهِ مِنْ حقَائق المعنَى. وهذا القَوْل وإِنْ كَانَ أَقرَب مِمَّا قَبلَه فَبعيد عن الصَّوابِ من وجه وَاحد وَهو أَنَّ الْإِدراكَ مِنْ صفَات الْحَيِّ، وَالْعَقلُ عرَض يَسْتَحِيل ذلك منه كما يسْتحيل أَنْ يكونَ متَلذّذًا أَوْ آلِماً أَو مُشتَهياً. والآخر يقول: الْعَقل هُوَ جُمْلةُ عُلومٍ ضرُورِيّة، وهذا الحدّ غَير محْصور لِمَا تَضمّنه من الإجمالِ والاحتمال، وإنَّ الْعقلَ هوَ الْعلمُ بِالمدرَكاتِ الضَّرُوريّة وذلك نوعانِ: أولهما: مَا وَقَعَ عَنْ درك الْحوَاسّ. وَالثَّانِي: مَا كانَ مبْتدِئا في النّفوس. فَأَمَّا مَا كان واقعاً عنْ دَركِ الْحواسّ فَمثل الْمَرئيَّات الْمدركةِ بالنَّظر، والْأصوَات الْمدرَكة بالسّمعِ، والطُّعوم الْمدركةِ بالذَّوقِ، والرَّوائح المدركةِ بالشّمِ، والأَجسام المدركةِ بِاللَّمسِ، فَإذا كان الْإنسان مِمّن لَو أدْركَ بحواسِّهِ هذه الأَشياء ثبَتَ لهُ هذا النَّوع من العِلم؛ لأَنّ خروجهُ في حال تغميض عينيْه من أَن يُدرِكَ بِهِمَا وَيعلمَ لَا يخرجهُ مِن أَن يَكون كَامل العَقل من حَيث عُلم من حالهِ أَنه لَو أَدركَ لَعَلِمَ. .............................. (1) إتحاف السادة المتقين، ج1، ص456. (2) ينظر الذخائر والبصائر، ج1، ص292.