رياض الزهراء العدد 82 من عبق الماضي
التّنُّورُ الطِّينِيّ مَوْرُوثٌ أَصِيل
الخبز من ضروريات الحياة، ولصنعه يحتاج الإنسان إلى أداة, فكان من الضروري وجود التنور. وتشير التنقيبات الأثرية إلى أن الإنسان العراقي وعبر العصور كان بارعاً في صناعة الفخاريات بأنواعها وأشكالها المختلفة ومنها تنور الطين, وظهرت هذه الصناعة التي لها علاقة بالأصالة والتراث الشعبي وبقيت صامدة عبر العصور تذكرنا بالأجداد والآباء. إذ انتشرت في الزمن الماضي حيث المعيشة السهلة البسيطة فلا يكاد بيت من البيوت العراقية مدناً وأريافاً إلا ويعبق برائحة الخبز الزكية ذات النكهة والمذاق اللذيذين، والذي قد يؤكل حتى من دون إدام. إذ كان شرطا أن تنصب كلّ عائلة تنوراً للخبز على السطح أو في إحدى زوايا المنزل، وأكثر مَن استخدمه أهل الأرياف الذين لا يستغنون عنه حتى في وقتنا الحاضر. ويعدّ وجود الخبز على مائدة الطعام من الضروريات، فهو يعبّر عن الكرم والضيافة، فمجرد إيقاد التنور وإشعال النار فيه يعدّ نوعاً من الترحيب بالضيف، ولعلّنا نجد هذه الحقيقة عبر تجوّلنا في الأرياف والقرى إذ تملأ رائحة الخبز الشهية الأجواء، ويكون عمل الخبز من اختصاص المرأة وخاصة الريفية. إن هناك معتقدات ظلت عالقة في نفوس الناس ومنها قدسية هذا التنور، إذ يسمّونه (تنور الزهراء (عليها السلام))؛ لأن السيدة (عليها السلام) كانت تخبز بتنور الطين؛ لذا لا يمكن أن يتجاوز عليه أحد أو يكسره أو يبصق فيه، ويقومون بتغطيته بعد الانتهاء من الخبز حتى لا تدخل فيه القطط والحشرات. وبمرور الزمن وبزوغ عصر التكنولوجيا والتطور والسرعة جاء تنور الغاز وهو أسرع من تنور الحطب، فحلّ محلّه، وبقى تنور الطين في المنازل وعلى السطوح لاستجلاب البركة، لكنه عاد للظهور والانتعاش مرة أخرى في مدة الحصار التي شهدت شحة في الوقود وغلاء الأسعار، إذ كان يلبّي حاجات الأسرة الاقتصادية من حيث رخص أسعاره، فهو لا يحتاج سوى الحطب من سعف النخيل والكرب، وكذلك نظافته وطعم الخبز اللذيذ النكهة أمّا كيفيّة صناعته فيقوم العامل عليه بجلب التراب الأحمر، ويعمل حفرة في الأرض خاصة لهذا الغرض ويضع هذا التراب فيها، ويقوم بسكب الماء عليه، ويترك لمدة (4) أيام ليختمر وبعدها يُخلط بالتبن الناعم، ثم يعالج (بالدوف أو الدعك)، ثم يقطّع إلى قطع يعمل من كلّ قطعة على شكل حبل، فإذا صارت عدة حبال يبدأ العامل بلفّ الحبل الأول على الأرض على شكل دائرة، ثم يلفّ عليه الحبل الثاني، والثالث وهكذا حتى تكتمل الحبال، بعدها يقوم بتوسيع جدار التنور من جميع جوانبه بواسطة طين ناعم مخمر، ويقوم بخرق أسفله وعمل فتحة تُسمى (الرواك) تساعد على مرور الهواء وإشعال الحطب وتهييج الجمر، بعدها يُترك تحت الشمس ليجفّ ويفضل عمل تنور الطين أيام الصيف لسرعة جفافه. ويُشترى التنور جاهزاً من الكوّازين (بائعو الفخار) أما في وقتنا الحاضر الذي خرجت فيه المرأة للعمل وذلك لكثرة متطلبات الحياة ولتساعد الرجل على المصاريف المنزلية فقد اقتصر تنور الطين على بعض المناطق وما يزال تنور الطين يحكي لنا قصة الماضي الأصيل، ويذكّرنا بحياة الأجداد، ومنه نستمد البركة والخير.