سَلامٌ عَلى فَاطِمَةَ (عليها السلام)

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 182

قاب قوسين أو أدنى من حرمه الشريف أقف، أمرّغ الوجه وأغسل الدموع بفيض أنواره، أرتوي من كوثر أمّه وأتوضّأ بفراتها، وأقف تحت قبّة قدسه رافعةً كفّيَّ نحو ملكوت السماء، حيث تنفتح أبواب الرحمة، وتمسح الملائكة بأجنحتها على رؤوس الزائرين. ومع سجدةٍ طويلةٍ أتنشّق منها عبير اللقاء، أغوص في عمق الرؤيا، وأنفصل عن الزمان لتدوّيَ في سمعي صرخات الأطفال والنساء مجروحةً مختلطةً بقعقعة السلاح وصهيل الخيول، ويبرز بينها صوتٌ ملائكيٌّ لا يمتّ إلى عالم البشر بصلة، يهتف بألم: "يا فضّة أسنديني، فقد وربّي قتلوا جنيني"(1). أرتعد، وتعبق حولي رائحة حريق الخيام ممزوجةً بدخان خشب الباب الذي راح يهتزّ تحت ضربات العتاة، وتقاوم ذرّاته حرارة النار المستعرة أمامه من ناحية، وقد عانق من الناحية الأخرى جسمًا أنحلته العبادة والتسبيح، وأرقّه الصيام والإيثار... ويقرع سمعي صوت جبريل الأمين مهلّلًا: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ (الإنسان: 8) ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب: 33) ثم مجلجلًا: تدكدكت والله أركان الهدى، وانفصمت العروة الوثقى... يمّ الدموع يغرقني، ويمّ الدماء... أنتشل نفسي بالغوص فيه حتى القاع، وأجدني أكتشف دررًا لا تُشترى ولا تُباع، فهنا رأس الحكمة قد انشقّ بسيف الكفر، وهنا كبد الرحمة قد قطّعه سمّ الغدر، وهناك جنينٌ يشكو لربّه أمة الجور، ورضيعٌ مضمّخٌ بنجيع النحر، وحسينٌ فوق رملٍ كالجمر يناجي الخالق بالشكر: إلهي تركتُ الخلق طرًّا في هواكا وأيتمتُ العيال لكي أراكا فلو قطّعتني في الحبّ إربًـــــــــــا لما مال الفؤاد إلى سواكا وفاطمة... يتغلغل الاسم في كياني حتى الذرّة الأخيرة... فاطمة... ويشهق في المدى نحيبٌ يخترق شغاف الروح: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ (التكوير:9) تقشعرّ جوارحي، ويتراءى لي ما بين الأفق والشمس الغارقة في حمرة الغياب سؤال بلا جواب: إلى متى يبقى مرقدكِ المقدّس يا أمّاه مستورًا؟! وتتداخل الأنوار في الأنوار، وأنصت لصوت ترتيلٍ بعيد: ﴿نورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (النور: 35) وأرفع رأسي... أرى الحرم المطهّر تحت ضوء القلب، يشعشع سناءً وبهاءً، وأراكِ... سيّدة الشكر والصبر، ومشكاة السرّ، كلمة الله الطيّبة في معراج النصر، لا مرقد كمرقدها، ولا حرم كحرمها، فهي متغلغلةٌ في كلّ حرمٍ وشاهدةٌ على كلّ أمر، وهي يوم الغدير الأغرّ وليلة القدر... وتتغلغل في الوجدان ما بين الحرم والكيان، ويسبّح اللسان بالذكر الكثير الريّان: "سلامٌ على آل ياسين، سلامٌ على الحسين، وسلامٌ على فاطمة"! ................................................ (1) مأساة الزهراء (عليها السلام)، السيّد جعفر مرتضى العاملي: ج٢، ص٢٨.