رياض الزهراء العدد 189 تمكين المرأة
الأُنثى المُهَمّشَةُ
في مجتمعنا ترسّخ في قلوب بعضهم قانون الغاب، فبات الحَمَل الوديع على وجل من مطاردة الضواري له أينما ذهب، فعمد بعضهم إلى قتل شخصية الأنثى في المرأة وهي طفلة، بذريعة حمايتها من التطفّل من قِبل الرجال، وذلك لأنّ لطافتها ووداعتها تسبّب لها الأذى من الطرف الآخر، إذ ذهبت أغلب الأفكار في المجتمع إلى بناء الحواجز بينها وبين شخصيتها كحلّ لحمايتها، فبدأوا ببرمجة البنت على أن تكون أقلّ فاعلية في محيطها، وكذلك تنشأ على شخصية ضعيفة مضطربة، مع منعها من ممارسة دورها الفاعل في المجتمع، فكانت هذه التربية أول خطوة تهيّئ المرأة للاستغلال والاضطهاد من دون الشعور بذلك، وتوظّفها للعمل الآليّ عبر إنجاز مهامّها في حدود ما فرضه عليها الرأي الآخر. وقد شاع في مجتمعاتنا أنّ البنت التي يشار إليها بالبنان على أنّها ذات خُلق رفيع، وتربية صالحة، هي مَن تربّت على ملازمة الدار، وعلى منهج تكميم الأفواه، فهي لا تتبنّى رأيًا، ولا تتّخذ قرارًا، ولا يحقّ لها تقرير مصيرها إلّا بتوجيه من الآخرين، إلّا أنّ الإسلام أعطاها دورها الصحيح في المجتمع، ومنحها حرّية ممارسة حياتها بشكل فعّال أسوةً بالرجل، ورسم لها حدودًا ومعايير تتكفّل بحمايتها من الضرر عند الاختلاط به، فقال تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَولِ فَيَطْمَعَ الذي فَي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا معْرُوفًا (الأحزاب: 32)، إذ حثّ القرآن الكريم المرأة على قول المعروف، وممارسة دورها من دون الخضوع واللين في القول؛ لأنّه يثير مواطن الضعف في قلوب الرجال ويطمعهم فيها، فالأنوثة في الإسلام هي أنوثة العفيفات المحتشمات، لا أنوثة المائلات المميلات، أنوثة المرأة المتّزنة الوقور التي تمشي على استحياء، وتمارس دورها بقوة وفاعلية؛ لأنّ أبرز ما جُبلت عليه في بناء شخصيتها هي صفة الحياء، وقد تكاد تكون الصفة الأساسية لكلّ امرأة ترعرعت في وسط يؤمن بالفضيلة والأخلاق، ولقد تمّ تبيينها في قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (القصص:23-25)، فلم تمنع التربية الفاضلة والقويمة بنات الأنبياء من ممارسة عملهنَّ، والاختلاط بالمجتمع، فصفة الحياء ليست حاجزًا للمرأة، بل هي وقاية لها، والقرآن الكريم مليء بصور النساء الفاعلات في المجتمع من دون أن يؤثر ذلك سلبًا فيهنَّ، منهنَّ مريم المقدّسة (عليها السلام) التي كانت المرأة الوحيدة بين الرجال في المعبد. ولنا أسوة حسنة في القرآن الناطق وعترته (عليهم السلام)، شخصية الاعتدال والكمال، المرأة التي كانت امتدادًا لقيام الحقّ وتثبيت جذوره، إنّها أميرة الحجاب والعفاف، وربيبة بيت الوحي، السيّدة زينب الطهر (عليها السلام)، هزمت الباطل في عقر داره، فعلى الرغم من مصائبها الجِسام بفقد أهل بيتها في يوم واحد، إلّا أنّ كفّة صبرها ويقينها رجحت، فتلاشت أمامها كلّ الصعاب، فأصبحت صرختها بوجه الظلم: (ما رأيتُ إلّا جميلًا) شعارًا يرفعه الأحرار في كلّ مكان وزمان، ووصمة عار في جبين الظلم والباطل، تطأطئ رؤوسهم منها إلى الأبد.