الخَطِيئَةُ الأُولَى
هو ذاك الشريط الأصفر الذي يحدّد مسرح الجريمة للوقوف على أسبابها عن طريق جمع الأدلّة وتحليلها، والوصول إلى الجاني، ومن ثمّ معاقبته تحقيقًا للعدالة، ولإصلاح ما فسد من سريرته. في محاولة منّا لوضع شريط أصفر حول مسرح أيّ جريمة، سواء كانت مادّية أم معنوية؛ لحصر أسبابها، محاولين منع تكرارها عن طريق وضع حلول، وأفكار، ومقترحات لمحاربتها، وعدم تكرارها، والحفاظ على الأمن المجتمعي، والحفاظ على الروح من تلوّث فطرتها بنوازع إجرامية مكتسبة. وسنبدأ بأول شريط أصفر، أول جريمة حدثت في التاريخ، وهي قتل قابيل لأخيه هابيل في قصّة مفصّلة معروفة، كان السبب الرئيس فيها الحسد. و(الحَسَد) في اللغة: تمنّي المرء أن تتحوّل النعمة إليه، أو أن يُسلبها.(١) والحسد آفة أخلاقية تلتهم الحسنات؛ لأنّه أول الشرور الذي يستجلب شرورًا وآفات معنوية كثيرة بعده، كالحقد والكِبر، والعُجب، وأذى الآخرين. والحسد هو سبب خروج إبليس من الجنّة، فحسده النبيّ آدم (عليه السلام) جرّه إلى التكبّر والتعالي، ومن ثمّ عصيان أمر الله تعالى بالسجود لآدم (عليه السلام)، وهو ما أكّده إمامنا الصادق (عليه السلام) في قوله: "الحاسد مضرّ بنفسه قبل أن يضرّ بالمحسود، كإبليس أورث بحسده لنفسه اللعنة، ولآدم عليه السلام الاجتباء، والهدى، والرفع إلى محلّ حقائق العهد والاصطفاء، فكن محسودًا، ولا تكن حاسدًا، فإنّ ميزان الحاسد أبدًا خفيف بثقل ميزان المحسود، والرزق مقسوم، فماذا ينفع حسد الحاسد، فما يضرّ المحسود الحسد، والحسد أصله من عمى القلب، وجحود فضل الله تعالى، وهما جناحان للكفر، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد، وهلك مهلكًا لا ينجو منه أبدًا، ولا توبة للحاسد لأنّه مصرّ عليه، معتقد به، مطبوع فيه، يبدو بلا معارض له ولا سبب، والطبع لا يتغيّر عن الأصل وإن عولج"(٢). ولهذا عبّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن الحسد بتعبيرات مُخيفة لمَن يتأمّلها مليًّا، منها قوله (صلّى الله عليه وآله) ذات يوم لأصحابه: "ألا إنّه قد دبّ إليكم داء الأمم من قبلكم وهو الحسد، ليس بحالق الشعر لكنّه حالق الدين، وينجي منه أن يكفّ الإنسان يده، ويخزن لسانه، ولا يكون ذا غَمز على أخيه المؤمن"(٣)، وعنه (صلّى الله عليه وآله): "إيّاكم والحسد، فإنّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"(٤). وكي لا تتكرّر الجرائم بسبب الحسد على أيّ أمر كان، سواء المال، أو الجمال، أو المنصب، أو أيّ نعمة أخرى، على الحاسد تشخيص مرضه وعلاجه قبل أن يستفحل ويكون مرضًا نفسيًا ملازمًا له، ومن أهمّ طرق مكافحة الحسد هو التدبّر في الآيات القرآنية وكلام المعصومين (عليهم السلام) في النهي عنه وتجنّبه، وتعويد النفس على الغبطة بدلًا من الحسد، والغِبطة (هي أن يتمنّى الإنسان أن تكون له نعمة مثلما للآخرين أو أكثر منها بدون أن يتمنّى زوال تلك النعمة عن الآخر)(٥)، ولذلك تُعدّ الغبطة من شِيم المؤمنين، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "المؤمن يغبطُ ولا يحسدُ، والمنافق يحسدُ ولا يغبطُ"(٦). وبلحاظ ما تقدّم، فإنّ قابيل لو جاهد نوازعه النفسية في حسد أخيه، لما تجرّأ على قتله ليصبح أول مجرم في التاريخ لارتكابه أول جريمة على هذه الأرض، فهل سنقتل قابيل الذي بداخلنا، ونغبط الآخرين ونخرج من هذا المطبّ المعنوي الذي ربّما نسقط فيه في لحظة ضعف؟ أم سنكون قابيل نفسه حينما نحسد الآخرين على نعمهم، ولا نتمنّى زوالها فقط، بل نسعى إلى إزالتها، فنؤذيهم ونقتل أحلامهم، ونِعَمهم؟! ........................................ (١) المعجم المحيط: ص ١٧٢. (٢) بحار الأنوار: ج ٧٠، ص٢٥٥، ح٢٣. (٣) جامع أحاديث الشيعة: ج ١٣، ص٥٥١، ح١٥٩٨. (٤) بحار الأنوار: ج ٧٠، ص٢٥٥، ح٢٦. (٥) الأخلاق في القرآن، مكارم الشيرازي: ج٢، ص١١٩. (٦) الكافي: ج٢، ص٣٠٧، ح٧.