رياض الزهراء العدد 189 الحشد المقدس
القَرارُ الأَخِيرُ
على مشارف نصر جديد يُضاف إلى سجّل انتصاراته السابقة: (جرف الصخر)، جبال (حمرين)، (تكريت)، حتى معارك جزيرة (الخالدية) التي كان يعدّها الأشرس من بين تلك المعارك التحريرية، في ليلة باردة هادئة نسبيًا وعلى خلاف العادة، أمر جنوده بالحذر الشديد من الطلقات النارية الطائشة، مثلما أمرهم بترك أصابعهم على زناد البنادق، تحسّبًا لحدوث أمرٍ طارئ، ووقف صامتًا ينظر إلى منزل مفخّخ، كان قد علم بأنّ عصابات داعش الإجرامية سيفجّرونه مع أذان الفجر، فضلًا عن علمه بأنّ الوقت لا يسع التأخير، فما هي إلّا بضع دقائق تفصل عن الموعد: ....حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِن الفَجر (البقرة:١٨٧) ممّا سبّب إرباكًا وحيرةً لجنوده قبل أعدائه، إذ لم يصدّقوا بقاءه صامتًا إلى هذه الساعة من دون اتّخاذ قرار ينقذ أهل ذلك البيت، وظنّوا أنّ هناك خطّةً ما شغلت باله، لذا عليهم التريّث قليلًا إلى حين اكتمالها، وراح يحدّث أحدهم الآخر: ربّما سيصدر أمرًا الآن، أو بعد دقيقة، أو أكثر من ذلك ونلتحق بمَن سبقنا من الأحبّة، يا لها من منزلة عظيمة أن يكتبوا أسماءنا في سجّل الشهداء الخالدين، أحقًّا سنرى مولانا الحسين (عليه السلام) ونقول له: أَوَفينا يا بن رسول الله؟ ونصافح حبيبًا، بريرًا، زهيرًا..... وبين أمنيّة الشهادة وقلق الانتظار، دوّت صافرات الخطر في قلوبهم فجأة؛ ليروا قائدهم يركض منفردًا بأقصى سرعته كالبرق الخاطف نحو ذلك البيت الملغوم بالقنابل، لم ينل من خطواته أزيز الرصاص الكثيف، ولا أصوات التكبير التي أطلقها العدوّ باتجاهه، بل زادته سرعةً وإصرارًا على إنقاذ كلّ الموجودين في البيت، ولم يكتفِ بإنقاذ امرأة عجوز، وشيخ طاعن في السنّ، بل راح ينقذ الآخرين. وفي هذه الأثناء اندلعت معركة عنيفة مع عصابات داعش الإجرامية، أدّت إلى انهيار البيت على مَن فيه، حال بينه وبين خروجه من الباب الرئيس، وما إن انجلت الغبرة فإذا بالقائد البطل يلفظ أنفاسه الأخيرة وسط ظلمة الدخان وحرارة النيران، يحمل على صدره طفلينِ صغيرينِ كانا آخر الناجين من التفجير، تقدّم جنوده صوبه صارخين: يا شيخ، يا شيخ، هل أنتَ بخير؟ طمئنّا عليكَ! لكن الشيخ لم يقوَ على الإجابة ولا الحركة، سوى فتح ذراعيه المضرّجات بالدماء كأنّه يطلب منهم تركه على هذه الحال؛ ليسرعوا إلى إسعاف مَن فداهم بروحه، ووقاهم ببدنه.