سَيِّدَةُ الأَوفِياءِ
تململ الحصى في جنباتي تحت وقع أقدامهم، ونفضتُ عن جفنيّ الترابيّين الرمال المثقلة بالندى وأنا أرقب تلك القافلة المهيبة، يتقدّمها سيّد خمسينيّ، عظيم القدر والجلال، ويحوم حول الهوادج فرسانٌ لم أرَ لهم مثيلًا من قبل، شموخًا وعزّةً وإقدامًا، ميّزتُ بينهم فارسًا شامخ الطول، وسيم الطلعة، يسطع من وجهه نور بهيّ، وقد راحت العيون تتطلّع صوبه تارةً، وصوب السيّد العظيم أخرى. لقد أيقظتني من سباتي تلك الخُطى الوقورة المتعجّلة، لكن ما نبّه حواسّي البكماء حقًّا كان صوتًا لم يملأ فضائي مثله، لم يكن مرتفعًا، بل كان همسًا رفيقًا، ولم يكن أجشّ النبرة، بل كان عذبًا رقيقًا، وقد ترافق مع إطلالة طيف امرأةٍ مهيبةٍ، أقبلت تتبع القافلة بخطىً حثيثة وهي تهتف بصوت فيه بحّة حزينة: رويدكم يا أبناء أمير المؤمنين، لي إليكم وصيّة! طأطأت الرؤوس، ونظر إليها عظيم القافلة برحمة، فانخفضتُ أديمًا متواضعًا لتلك العظمة، وجاوب صوتُها صمتَ النظرة متهدّجًا: ما قصدتُكَ يا مولاي وابن مولاي، بل قصدتُ أبناء خادمتكم أمّ البنين! ـ لبّيكِ يا أمّاه! وتحلّق أربعة أشبال حول لبوة العرين، وأكبرهم ذاك الفارس البهيّ، فأرهفت كلّ ذرّةٍ من رمالي الساكنة تحت أقدامهم وأنا أصغي لصوتها المنساب كدمعة تترقرق من عين الحنين، وكنبرة تزأر بأحلام السنين: ـ دونكم مولاكم، كونوا له درعًا تقيه حرّ السيوف، وماءً يرويه من ظمأ الحتوف، نفسكم دون نفسه، وروحكم دون روحه، وكلّكم دونه! ـ حبًّا وكرامةً يا أمّاه، حبًّا وكرامة! نظرت العيون في العيون، وتلاقت عند كبيرهم؛ هي ليست وصيّتها الأولى، بل الأخيرة.. انحنوا عليها يقبّلون رأسها ويديها، إلّا هو، فقد ارتمى عند قدميها، ومع أنّ الليل كان بهيم السواد، إلّا أنّه لمّا سجد هناك رأيتُ دمعته الساكبة، وتحسّستُ رطوبتها فوق تربتي قبل أن تنكبّ عليه بيدها الحادبة ترفعه، وتنحني بهامتها العالية فتقبّل كفّيه.. ويحي! أمٌّ تقبّل يديْ ولدها! أيّ أمٍّ هذه، وأيّ ولد هو! تبدّد ذهولي لمّا أتتني هينمات النسوة المستعبرات للمشهد: كفّانِ قبّلهما أمير المؤمنين، لا عجب في أن تقبّلهما أمّ البنين! أمّا هو، ذاك الفارس الذي تمحورت حوله القلوب كأنّه القمر ساعة الغروب، فقد ذبّها عن يديه، وضمّها إليه، وهدّأ روعها، وشيّعها نحو طريق العودة.. طالعتُها عائدةً بخطىً ثابتة، ترمق القافلة بدمعة صامتة، وأقرأ في عينيها اللتين أضناهما السهر والبكاء، مرارة الغربة التي بدأت منذ اللحظة الأولى لفراق الأحبّة. توارى الموكب المهيب، لكنّ صورته لم تتوارَ، بل لا تزال آثار الخُطى الراسخة تحفر فيّ وجودًا لا يغيب، أنا الدرب الذي طالما شهد وداع الأحبّة ولقاءهم، ولكن هذا الوداع لم يكن كسواه.. لقد استمرّ صداه يتردّد شهورًا طويلة، مع كلّ إطلالةٍ لطَيْف تلك السيّدة الجليلة التي دأبت على القدوم كلّ يوم إليّ، تتعثّر بحصاي، وتفترش جنبيّ، وتسأل الغادين والرائحين: ها! مَن رأى لي الحسين؟ هل من خبرٍ عنه يروي ظمأ القلب إليه؟ كان سؤالًا عجيبًا، والأعجب منه أنّي لم أسمعها قطّ تسأل عن غير الحسين، حتى أولئك الأشاوس الذين ودّعتهم، وذرفت قلبها حزنًا على فراقهم، لم تذكرهم بكلمة، بل كان جلّ همّها الحسين! وأتى ذلك اليوم الذي رأيتُها فيه تجيب الناعي الذي دخل المدينة ونعى الحسين.. ومع أنّ رمالي تزلزلت، وسمائي تململت لمعرفة ذاك الخبر الفظيع، إلّا أنّ سؤال أمّ البنين الذي لم يتوقّف إلّا عنده، جسّد آلام الجميع.. كان ذاك آخر عهدي بها، فلقد صارت وجهتها بعد ذلك اليوم جنّة البقيع، حيث زرعت كلّ أحلامها قبورًا لأحبّتها، وصارت ندبتها تتناهى إليّ فتشجيني، وللمرّة الأولى منذ وُجِدتُ، غدوتُ أتقن فنّ الأنين، وأصدره ليلًا للعابرين، ولا يفرحني لقاء العائدين بعدما ختمتُ كلّ أفراحي بوداع الحسين.. وكان آخر ما تناهى إليّ من أخبارها، أنّها في ذلك اليوم القائظ الذي افترشت فيه الرمضاء، والتحفت السماء، ألصقت وجهها بالأرض في سجدةٍ طويلة، تشكر الباري على نعمائه أنّه جعلها أمًّا لسيّد الأوفياء، وخادمةً لسيّدة النساء، وهمست مع أنفاسها الأخيرة التي تناهت إليّ عبر أروقة التراب، تسأل (حسينها) مسألتها الأثيرة، وتصغي للجواب: أَوفيتُ يا بن رسول الله؟