مَقامُ الاصطِفاءِ لِفاطِمَةَ الزَّهراءِ (عليها السلام)
الاصطفاء من اصطفى، واصطفاه: اختاره وفضّله، فالاصطفاء: الاختيار والتفضيل. والاصطفاء مفهوم قرآني، ورد في العديد من الآيات الكريمة، فقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران:33)، وقال عزّ من قائل: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:42)، أي أنّ الله تعالى اختار وفضّل وقدّم هؤلاء على العالمين لعلّتين سببيتين، تكمن الأولى في اتّصاف ذواتهم المباركة بكمالات عظيمة جعلتهم أهلًا لذلك الاصطفاء، فيما تكمن الثانية في سبب غيبيّ لا يعلمه إلّا هو سبحانه، ولعلّتين غائيتين: أولاهما: تبليغ رسالته تعالى وشرائعه، وثانيهما: أنْ يكونوا قدوات لسواهم من الناس. ومن هنا كان مقام اصطفائهم دليلًا على عصمتهم وعلمهم اللدنيّ، ومن ثمّ على حجّيتهم، لئلا يردّ قولهم مُستخفّ بدينه، أو مدّعي الثقافة المزيّفة والتصويب النسبي، ولئلا يتيه الناس على مرّ العصور بين مَن يجب عليهم اتّباعهم حقًّا وبين مَن غصبوا هذا المقام، وبذا يكون مقام الاصطفاء تكريمًا للمُصطفينَ ورحمةً للناس؛ لما يمثّله من عصمة لهم من الضلال. ومن المعلوم أنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) من خيرة آل عمران فهي مُصطفاة، فعن المفضّل قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني عن قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فاطمة: إنّها سيّدة نساء العالمين، أهي سيّدة نساء عالمها؟ فقال: "ذاك لمريم كانت سيّدة نساء عالمها، وفاطمة سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين"(1)، فإذا كانت مريم (عليها السلام) مصطفاة، فسيّدتها حائزة على مقام الاصطفاء من باب أولى. وقد ورد في زيارتها (عليها السلام) المرويّة عن الإمام الباقر (عليه السلام): "اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا مُمْتَحَنَةُ، امْتَحَنَكِ الَّذي خَلَقَكِ فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صابِرَةً..."(2)، والامتحان عادةً ما يكون بتوجيه أسئلة إلى الشخص المُمتحَن للكشف عن معلوماته، أو بإخضاعه لتجربة ما للكشف عن كيفية تعامله معها، أو لمحنة للكشف عن مدى صبره، والامتحان بهذا المعنى إنّما يكون بين البشر غير المعصومين؛ لجهل بعضهم بحقائق بعض، فيكون الامتحان كاشفًا عن خصائص الممتحَن للممتحِن، إلّا أنّ هذا المعنى لا ينطبق على امتحانه تعالى؛ إذ إنّه سبحانه لا يجهل شيئًا، وهو العالم بكلّ شيء قبل خَلقه، وعليه يكون امتحانه لإيقاف الممتحَن على واقعه، أو لإيقاف الناس على واقع هذا الممتحَن. وأمّا امتحانه للسيّدة الزهراء (عليها السلام) في هذه الزيارة، فإنّ المراد منه أنّه تعالى استخبر حالها في الأزل بأنّها ستكون صابرةً في أدائها ورسالتها ومهمّتها، وعلى ما ستواجهه من مِحن في الدنيا. وهذا ما أطلق عليه العلماء اسم (الامتحان العلمي)، وهو امتحان الشيء امتحانًا علميًا قبل أن يوجد عمليًا في الخارج، ولتقريب المعنى نقول: إنّ المزارع الخبير مثلًا، يعلم بأنّ هذا النوع من البذور إذا زُرع في أرض خصبة فإنّه سينتج زرعًا جيدًا، وذاك النوع من البذور سينتج زرعًا رديئًا، بل يعلم النوع الأجود من البذور الذي يقدّم زرعًا أفضل، فالله تعالى عالم بنتيجة امتحانه إيّاها في الدنيا بأنّها ستكون صابرةً حتمًا وهو لم يخلقها بعدُ، ولذلك اصطفاها لذلك الامتحان، فامتحانه تعالى إيّاها قبل خلقها بمعنى علمه بواقعها وبصبرها بعد أن يخلقها، ومن ثم فامتحانها يعني اصطفاؤها. ......................................... (1) بحار الأنوار: ج43، ص ٢٦. (2) مفاتيح الجنان: ج1، ص 108.