شَحَّةُ كَلامٍ

سماهر عبد الجبّار الخزرجيّ/ ديالى
عدد المشاهدات : 239

تتعب أقدامي وهي تتنقل بي على عجالة من مكان إلى آخر، كأنّها امتهنت ذلك، فراحت توجّهني بدون إيعاز منّي، فقدم عند قدر الطبخ، وأخرى أطلقها عند جهاز غسيل الملابس، ثم المكنسة، ثم ألقي نظرة عاجلة على طفلتي، لأتفقّدها وهي لا تزال أمام شاشة التلفاز، منذ ساعة ولم تبرح مكانها! عليّ أن أنهي أعمالي قبل موعد المدرسة، فالساعة تشير إلى (11:30) صباحًا، أعددتُ لنرجس قنينة اللبن، ودسستُها في فمها، وجعلتُ من الأغطية مساند للقنينة؛ لأنّها ما تزال لا تجيد مسك الأشياء، وعيناها ما تزالان مسمّرتين أمام التلفاز. وبينما أهمّ بالذهاب إلى وظيفتي، وطأت قدما زوجي البيت، فقلتُ له: - ستنام نرجس، فقد غيّرتُ ملابسها وأرضعتها، وإن لم تنم فاتركها أمام التلفاز مع قنواتها المفضّلة، فهي لن تزعجكَ أبدًا. وكالعادة كان زوجي يردّد عليّ كلماته: الطفلة ليست آلة تبرمجينها على وضع واحد، بل هي بحاجة إلى همس حروفكِ، فلا ينفعها وقع أقدامكِ وأنتِ تتجوّلين لتنظيف البيت وإعداد الطعام، إنّها بحاجة إلى مناغاتكِ لها، والتفاعل معكِ، لتجيد بعدها سبك الحروف وإنشاء الجمل، والتعبير عمّا في خلجاتها ولو بشكل أحرف مقطّعة. - وهل لديّ متّسع من الوقت لمناغاتها والكلام معها؟! - نعم، فبإمكانكِ وضعها إلى جانبكِ والتكلّم معها، فيداكِ تعملان، لا لسانكِ! - نرجس، نرجس، نرجس، انظر، كأنّها صمّاء، حتى أنّها لا تنتبه إلى مَن يناديها! ردّ عليّ وهو مقطّب الجبين: - إنّها في عالمها الخاصّ الذي أوجدتِه لها، ألا تلاحظين أنّها لا تنطق بكلمة وقد دخلت عامها الثالث، وإن نطقت، تمتمت بجمل ومفردات غير مفهومة؟! قلتُ له وقد غمر قلبي الحزن: وما العمل؟ - قال الطبيب إنّها تعاني من افتقار بيئيّ لشدّة ملازمتها للهاتف الجوّال والتلفاز، وعدم الكلام معها، وملازمتها للبيت، وعدم اختلاطها بأقرانها، فأصبح لها عالمها الخاصّ الذي تعيش فيه مع شخصيات وهمية. - لكنّني كنتُ أظنّها صمّاء، فلا تنتبه إلى مناداتي لها، ولا إلى صراخي لو لم أرها تتناغم مع قنواتها وأناشيدها. - ما يزال الوقت مؤاتيًا لإصلاح الأمر، فعلينا أن نجنّبها الهاتف والتلفاز، وإبدالهما بالتنزّه والسفر، وكثرة الكلام معها، وترديد المصطلحات، وذلك يحتاج إلى صبر وجهد، فنفس الطفل كالوعاء، تملئينه بما شئتِ، أو أنّه كالمغناطيس يجذب كلّ ما حوله، وله استعداد تامّ ليتأثر بالأمور السلبية والإيجابية، فهو وعاؤكِ، فاملئيه بما أحببتِ، فهو عائد عليكِ لاحقًا، وقد جاء في رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام): "...أمّا حقّ الصغير فرحمته، وتثقيفه، وتعليمه، والعفو عنه، والستر عليه، والرفق به، والمعونة له، والستر على جرائر حداثته، فإنّه سبب للتوبة، والمداراة، وترك مماحكته، فإنّ ذلك أدنى لرشده..."(1)، فالطفل هو مسؤوليتكِ ورسالتكِ، وليس تنظيف البيت وإعداد الطعام. أشحتُ بوجهي إلى نرجس وقد غزت عينيّ الدموع، وإذا بها قد غفت وما يزال الهاتف بين راحتيها. ......................................................... (1) بحار الأنوار: ج٧١، ص ١٩.