فِي مَحضَرِ القَمَرِ

رجاء محمّد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 246

هينمةٌ أنا من هينمات الملائكة المقرّبين، شردت في زاوية ما من فضاء الكون الرحيب.. همسةٌ متهاديةٌ امتطت صهوة الزمان، وراحت تنساب في أوديته السحيقة، باحثةً عن جوهر الحقيقة.. لا، أنا لم أضعها، ولكنّي وددتُ معاينتها عن قرب، فانفلتُّ من شعاع الملكوت لأجوب عالم الدنيا، فأرصد كلّ ولادة وموت، لأشهد السكينة العليا، وها أنا ذي الآن قد وصلتُ إلى رجب! شهرٌ من شهور الله، قد اصطفاه الباري بحرمة ورحمة، أمّا حرمته فهو رابع الأشهر الحرم وأوحدها، فهي متتالية في تسلسلها، ذو القعدة، ذو الحجّة، محرّم، أمّا هو فمنفرد، يتألّق في ثلّة الشهور كالنجم الثاقب، وأمّا رحمته، فتلك هي الحكاية.. أطلّ من نافذته المشعشعة بضياء غريب، أستطلع السبب، فأرى هلاله يتمطّى ويتثاءب، ثم يطلق تنهيدةً ترتقي نحو السماء كابتسامة مشرقة.. ألتفتُ يمنة ويسرة، وإذا بي أراها، سيّدة ذات جمال وجلال، تقبل وعلى يديها غلام يسطع من وجهه نور باهر، يستمدّ منه الضياء ذاك الهلال الوليد.. أحوم حولها هامسةً في أذنها متسائلةً عمّن تكون، وعن هذا الكنز المكنون الذي تحمله، فتتبسّم كالفجر، وتحرّك لسانها بالذكر وهي تجيب: ـ حجّة الله وابن حجّته، وأبو الحجج والمآثر، محمّد بن عليّ الباقر.. ألفّها بوشاحي النوراني الخفيّ مهلّلةً، وأضيف: ـ وأنتِ أمّه، فاطمة بنت الحسن المجتبى (عليه السلام)؟ وافرحتاه! لقد اكتملت بولادة هذا القمر أعراس البشر، فقد اتّحد في كيانه المقدّس نور الحسنين، وها هو رجب المرجّب يزهو على شهور الله باحتضانه، مثلما تزهين أنتِ يا مولاتي، أو ربّما أكثر.. ترمق طيفي اللامرئيّ بطرفها الحالم، وتزيدني علمًا بما لم أحط به من معالم: - صدقتِ، ولكنّه ليس مولوده الوحيد، فقد احتضن بدره ولادة يعسوب الدين وإمام المتّقين، روحي وأرواح بنيّ الطاهرين فداه، الذي شقّ فضاء الكعبة ذات ليلٍ داجٍ، وشهدت أركان بيت الله على ولادته العجيبة، ثم ها هو هلاله، يحتضن ولادة طفلي المبارك هذا، وهو محمّد، سميّ المصطفى الأمجد، وهو باقر علوم الأولين والآخرين، ثم في العاشر منه يولد الرابع من نسله الشريف، التاسع من أئمة هذا البيت الطاهر، المسمّى باسم جدّه المصطفى أيضًا، هو محمّد بن عليّ الجواد التقيّ، "...قُدّست أمٌّ ولدته، فقد خُلقت طاهرةً مطهّرة..."(1). - طوبى لها، إذن قد شهدتِ يا سيّدتي شهادتكِ بحقّها؟ - لستُ أنا مَن شهدتُ، فذاك حديث يرويه بحقّها ثامن أئمة هذا البيت، المسمّى بـ(عليّ الرضا)، وذاك قبل ولادتها بسنين.. - وهل هي منكم، من بني هاشم الأكارم؟ - لا، بل هي من أصفيائنا، من أهل بيت مارية القبطيّة، زوج النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وأمّ ولده إبراهيم، هي سبيكة المدعوّة بـ(الخيزران)، "...خيرة الإماء النوبيّة الطيّبة..."(2). أكاد أغادرها مسرورةً، مكتفيةً بما سمعتُ، وقد بثّ النشاط في ذرّاتي النورانية ذاك الألق الفريد، فاستوقفتني بكلام جديد: ـ إن كانت أنوار الباري ترصد أنوار هذا الشهر، وتبحث عن مواطن الرحمة والشكر في محضر القمر، فلا يزال أمامها نور آخر.. عدتُ إليها متشوّقةً، فبادرتني: ـ هو نور الخامس من نسل ولدي هذا، العاشر من أئمة الهدى (عليهم السلام)، سميّ جدّه المرتضى، إنّه عليّ بن محمّد الهادي، وأمّه سيّدة ذات فضل وتقى، مغربيّة الأصل، معرفيّة الفعل، اسمها (سمانة)، وهي مَن شهد لها ولدها الهادي (عليه السلام) بقوله: "أمّي عارفة بحقّي، وهي من أهل الجنّة، لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها كيد جبّار عنيد، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام، ولا تتخلّف عن أمّهات الصدّيقين والصالحين"(3). تمتلئ ذرّاتي نورًا أكثر، وتثقلني الأنوار وأنا أرقب تلك السيّدة المجلّلة بالثناء، وهي تستطلع الحبور في وجه وليدها، فأنسلّ رويدًا رويدًا؛ لأتابع رحلتي الأثيرة في عالم الأقمار. .................................................................... (1) بحار الأنوار: ج50، ص ١٥. (2) المصدر نفسه: ج50، ص21. (3) دلائل الإمامة: ص410.