رياض الزهراء العدد 190 ألم الجراح
حُدُودُ الصَّبرِ
أنتِ مثلما عهدتكِ في كلّ جراحاتكِ.. عهدتُكِ عينًا خلف جدار الزمن، نتعرّف عن طريقكِ على كلّ أوجاعنا الأولى.. فمنذ أن عرفتُكِ وأنتِ تحتضنين الذكرى بعد الذكرى.. وتروين حكايات الخلود.. عرفتُ كيف يكون الشوق في حضرتكِ، وكيف يكون البكاء.. عرفتُ أين وُلد الدمع، وكيف تعيش الأحزان.. منذ عرفتُكِ وأنا أمشي خلف ذكرياتكِ على وجل، وفي ذروة خوفي.. يثور في داخلي الحنين والاشتياق بعد السبات.. فتخاطبني جراحكِ بلغة لا تعرفها البشرية.. لغة من كتب العشق السرمدي.. لتروي لي هذه المرّة ذكرى حائرة باكية، تشكو السجّان.. ذكرى تروي مظالمها يدان مقيّدتان، وساق مرضوضة بحَلق القيود.. منسيّة في غياهب السجون.. فنقرؤها على أبوابكِ وطرقاتكِ يا سامرّاء.. تبوح بأسرارها للديار، وللمكان، وللزمان.. لتتخطّى مصيبة الإمام المسجون جدار الظلم، وتكسر كلّ أغلالها.. فبما أودع الله (عزّ وجلّ) في حجّته الكاظم (عليه السلام) من قداسة وهدىً، كان بلاء الجور يفتك بكلّ حواسّه ليواسيه صبرًا يتسامى إلى العلا صلاةً.. كي ترضي الله، وسدرة المنتهى مبتغاه.. وكلّما قست الحياة وضيّق ظلم اللارشيد عليه الخناق.. معتقدًا أنّه سيكسر فيه صبر الأنبياء.. فاض نورًا، ينير أحلك الظلمات في طوامير الطاغوت.. فتأنس به كلّ الموجودات، فتغدو بوجوده السجون بقعةً من الجنان.. وتتحوّل قلوب السجّانين الملتهبة بنيران الحقد إلى رماد وركام.. فلا يبقى فيها إلّا الندم.. فعادت إلى غيّها أصنام الضلالة تهدم ركنًا.. وتحارب التوحيد، وتغتال الهدى.. فأظلمت كلّ الحكايات الأخرى، وضجّت القناديل.. وماتت مسمومةً بغدرٍ كلّ لذّة في لقاء أفراحكِ المؤجّلة.. وتِهنا في سراديب حكاياتكِ الممتلئة بالظلم الأسود.. وفي لحظةٍ، قدر الضياع واللوعة نزل.. ورأيتُ الخيال عبر الظلام يصيح في وجل، قال: الوداع، فقد مات الأمل.. ومضى الصابر إلى عرش الرحمن يسمو، حيث كانت نظراته المقدّسة تعلو إلى الآفاق.. حيث الجنان، مأوى الأنبياء ومأواه..