رياض الزهراء العدد 190 شخصيات ملهمة
صِدِّيقَةُ آلِ الحَسَنِ (عليهم السلام)
درّة فتيّة، زهرة قرشيّة، بل أقحوانة علويّة النسب، عريقة الحسب، نشأت في بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا، سليلة الأشراف، صدّيقة بعد جدّتها الزهراء (عليها السلام)، شابهت جدّتها باسمها الشريف، وبالمآسي والأحزان، لم تُولد هاشميّة صدّيقة لآل الحسن مثلها ولا بصفاتها، بل تفرّدت في كونها ابنة الإمام، وزوجة الإمام، وأمّ الإمام، وقال عنها الإمام الصادق (عليه السلام): "كانت صدّيقة، لم يُدرك في آل الحسن مثلها"(١). جوهرة مكنونة اجتباها المنّان لتكون أمًّا للسلالة النبويّة، وعروسًا للبيت الطاهر، فاقترن النور بالضياء، فأشرق جبين الإمامة في حجرها بولادة سميّ جدّه الأعظم، الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)، عاشت في بيت عمّها سيّد الشهداء (عليه السلام)، وتنفّست عطر إمامته، واكتحل جفناها بجمال طلعته، تجرّعت غصّة فراق والدها السبط المجتبى (عليه السلام)، وأبصرته كيف يلفظ كبده، فالتاع قلبها لرحيله، وانكسار أهله وأحبّائه. وحين حانت ساعة الرحيل إلى كربلاء، كانت (عليها السلام) في ذلك الركب الملكوتي مع النساء، ودّعت بعينيها الدامعتين ديار الأحبّة، وهي لا تدري بأيّ حال ستعود، وبيديها الطاهرتين احتضنت فلذّة كبدها، تخشى عليه قساوة الأيام، وجور اللئام، وما إن وصلت كربلاء حتى حلّ البلاء، فقد رأت بأمّ عينيها شهادة أخويها القاسم وعبد الله (عليهما السلام)، والثلّة الطيّبة من الأهل والأصحاب الكرام بين يدي عمّها الحسين (عليه السلام)، وكم ذاب قلبها لفراق بدر لياليهم، ونور أبصارهم، قمر بني هاشم، والمآسي تترى على قلبها الشريف، وهي تستقبل تلك الرزايا بمنتهى الصبر متأسّيةً بعمّتها زينب (عليها السلام)؛ لأنّها أدركت جيدًا أنّها من أهل بيتٍ القتل لهم عادة، وكرامتهم من الله الشهادة(٢). وكم تصدّع قلبها عند سماع جواد عمّها سيّد الشهداء (عليه السلام) يحمحم ويصهل ثكِلًا، رأت مع بنات الرسالة ذلك المنظر الرهيب الذي تخرّ له الجبال الراسيات، لقد تحمّلت سليلة النبوّة، أمّ الباقر (عليه السلام) تلك الرزايا والظلامات، ورزيّة ذلك النداء: (أحرقوا بيوت الظالمين) (٣)، الله أكبر، ما أعظمها من مصيبة! بنات الوحي والرسالة يتراكضنَ من خيمة إلى أخرى، ويفررنَ إلى البيداء، ومولاتنا فاطمة بنت الحسن (عليهما السلام) تحدو بقلبها عدّة مخاوف، توجّسها على حجابها وحشمتها، وخشيتها على صغيرها الذي لم يبلغ الأربعة أعوام، وهلعها المتزايد على زوجها وإمامها زين العابدين (عليه السلام). حيرة ما بعدها حيرة، تتحمّل ألم السياط والجوع والتعب، لكنّها لا تتحمّل أن ترى زوجها يتلوّى من المرض، وقطرات دمه الشريف تتساقط من تلك الجامعة التي في عنقه، لم تهدأ، ولم تجفّ عيونها من البكاء لحظةً طوال الطريق، لكنّها كانت تحتسب ذلك عند الله تعالى، فهو المطّلع على حالهم، وهو الذي يحرسهم بعينه التي لا تنام. وعند رجوع قافلة الأحزان إلى المدينة، لم تهدأ آلامها أبدًا، بل تأجّجت مع آلام عمّاتها وسائر مَن بقي، ولا تنطفئ تلك النيران إلّا بظهور صاحب الثأر، فالبدارِ البدارِ يا مولانا يا صاحب الزمان. ......................................................... 1- بحار الأنوار، ج ٤٦، ٢١٥. 2- بحار الانوار، ج٤٥، ص ١١٨. 3- حياة الإمام الحسين:3:299، نقلاً عن تاريخ المظفري:238.