حِجرٌ وَمَقامٌ

غدير خم حميد العارضي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 318

في وسط مجتمع جاهلي وثني، سطعت شموس أضاءت سماء مكّة، وازدانت بها صفحات تاريخها، عاشوا على ثراها، وترعرعوا في بيوتها، لكنّهم تمرّدوا على طبيعتها، وتفرّدوا بشخصياتهم التي نأوا بها عن منهج أهلها، إذ بقيت قلوبهم طاهرة، وبحبّ الله تعالى مشرقة نيّرة، وبطاعته عامرة. أسماء عصيّة على النسيان، وحيدة في الدهر، خالدة على مدى الأزمان، تنزّهت عن السجود لغير الله جلّ في علاه، وتسامت عن سفاسف الأمور التي استهوت من أضلّه الشيطان وأرداه، واستحوذ عليه فأنساه ذكر ربّه حتى بات عبدًا لهواه، مؤثرًا لطاعته على طاعة خالقه ومولاه. ومن هذه الأسماء اسم كريم لسيّدة جليلة، لها رحلة كفاح طويلة، ابتدأت في بيت طاهر مُوَحِّد، وأسرة عريقة الأصل كريمة المَحتِد، يشترك أجدادها مع أجداد النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله)، تربّت فيها على مكارم الأخلاق، وتلقّت فيها تربية راقية جعلتها مشرقة الباطن، طاهرة الأعماق، حتى باتت من خيرة فتيات عصرها؛ ولذلك اختارها سيّد قريش زوجةً ولم يستبدل بها غيرها، لتنتقل إلى بيت أبي طالب (عليه السلام)، وتشكّل أسرة صالحة كانت موضع فخر واهتمام، خرج منها أفضل الرجال، وخاضوا مع الرسول الأهوال، وتحدّوا فراعنة عصورهم لتثبيت دعائم الإسلام، ولا عجب، فأبوهم كهف الرسالة أبو طالب، وأمّهم أول مَن احتضنت الرسول (صلّى الله عليه وآله) وبايعته، فأظهرت ببيعتها ما اختصّت به من عظيم المناقب، وكان أصغر أولادها وأفضلهم أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي فازت الكعبة المشرّفة باحتضانه، وشقّت جدرانها لاستقبال أمّه التي عمر قلبها بحبّ ربّها وطلب رضوانه. حادثة لم يشاركها أحد قبلها ولا بعدها، شاهدة على جليل قدرها، ورفيع مقامها ومنزلتها، وعظمة وليدها، وخطورة الدور المرتقب منه في تاريخ الرسالة التي نافح في سبيلها حتى آخر لحظة من عمره الذي أوقفه لها. أقبلت نحو بيت ربّها تناجيه، تعرب عن إيمانها به وتوكّلها عليه، وتسأله تيسير أمرها لتضع مولودها. ويكرمها المنّان لتضع حملها في أشرف بقعة وأقدس مكان، فلم يفتح لها بابًا، بل شقّ جدارًا؛ ليبرز عظيم فضلها، ويوجّه القلوب نحو مقام ولدها! تتشقّق الجدران، وترتفع الأصوات كأنّها زغاريد الاحتفال بالوليد، وتغيب ابنة أسد عن الأنظار، لتخرج وعلى يدها بعد ثلاثة أيام حيدر الكرّار، وليد الكعبة ومحطّم الأصنام الموضوعة فيها، البطل الذي سيجندل مَن حجبوا أنوارها، وطمسوا آثارها، ووضعوا في فنائها أصنامهم ليصرفوا الناس عن حقيقتها، عضد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وسيف الرسالة، المحامي عن الحقّ والمدافع عن القيم والعدالة، مصباح الضياء، وسيّد الأوصياء، وأبو الأئمة النجباء، وفخر البشرية جمعاء. خرجت لتواصل رحلة كفاحها، ومشوار جهادها، فكانت خير أمّ للوصي، مثلما كانت من قبل ذلك خير كافلة لأعظم نبي. واصلت مسيرتها بعزم الأولياء وصبر الأتقياء، وتكفّلت بعد رحيل مولاتنا خديجة (عليها السلام) ابنتها سيّدة النساء، وهاجرت في سبيل الله تعالى؛ لتكتمل آخر فصول رحلة كفاحها في المدينة بعد عمر حافل بالعطاء والتضحية والفداء، لتُدفن في (الروحاء)، بقعة قدس تشرّفت باحتواء جثمانها، وما استطاعت حجب أنوارها، وإخفاء نجوم إيثارها. فسلام الله عليكِ أيّتها الكريمة الرَضية، وصلاة دائمة من قلب كلّ امرأة تتخذك منارًا للوصول إلى رياض السعادة الأبدية، تمرّ على ذكركِ، فتقتصّ أثركِ، وتهتدي بهديكِ، وتدين بالولاء لولدكِ، وتتّبع خطواتكِ، وتقتبس من فيض كمالاتكِ ما يثبّت أقدامها على الدرب القويم، يا أمّ الصراط المستقيم.