رياض الزهراء العدد 191 أنوار قرآنية
اللِّسانُ أَطيَبُ الجَوارِحِ وَأَخبَثُها
حينما نتحدّث عن اللسان، يتبادر إلى أذهاننا كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما قال: "المرء مخبوء تحت طيّ لسانه لا تحت طيلسانه"(1)، بمعنى أنّ الإنسان من كلامه يُعرف مستوى عقله، وتفكيره، وقدراته، لا بمظهره وبما يرتديه، أو رصيده المالي، أو جاهه، أو حسبه، أو نسبه، إنّما يُعرف جوهر الإنسان عن طريق لسانه، فهو المعبّر عمّا يجول في قلب الإنسان، فبه تتنافر القلوب أو تأتلف، وبه يُذكر الله ويُعبد، أو يُشرك به، ويُظلم الأبرياء، وتُقذف المحصنات، وتُدمّر البيوت، وتُهتك الأعراض، وبه يُرشد الضالّون والحيارى. يُعرّف اللسان علميًا بأنّه عضو عضلي موجود داخل الفم يرتبط بالفكّ عبر (17) عضلة، تؤمّن له حركته وعمله(1)، أمّا في اللغة فأنّه يُعرف بأنّه جسم لحمي مستطيل متحرّك يكون في الفم، يصلح للتذوّق والبلع والنطق(2). إذًا هو قطعة من اللحم ذات وزن قليل، قد لا يتجاوز الـ(200) غرام، لكن هذه القطعة اللحمية خطرها سيكون عظيمًا إذا ما استُخدمت استخدامًا خاطئًا، فقد تنسف بلدانًا، وتدمّر شعوبًا بكلمة منها، وقد تكون مفتاحًا للخير إذا ما استُخدمت استخدامًا فيه خير وصلاح. من هنا ندرك أنّ ما يميّز الإنسان العاقل عن الجاهل هو لسانه، فالعاقل هو الذي يجعل لسانه تحت سيطرة عقله، فيوجّهه التوجيه الصحيح، أمّا الجاهل أو الأحمق فهو الذي يجعل عقله تحت سيطرة لسانه، فتكون نهايته الوقوع في المهالك، فكم من إنسان هلك بسبب سوء استخدام لسانه، فقد ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "يعذّب الله اللسان بعذاب لا يعذّب به شيئًا من الجوارح، فيقول: أي ربّ، عذّبتني بعذاب لم تعذّب به شيئًا، فيُقال له: خرجت منكَ كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك بها الدم الحرام، وانتُهب بها المال الحرام، وانتُهك بها الفرج الحرام، وعزّتي وجلالي لأعذّبنّكَ بعذاب لا أعذّب به شيئًا من جوارحكَ"(2). ومن الأمور الغريبة المرتبطة باللسان أنّ الأطبّاء قديمًا كانوا يستدّلون به على المرض، ويشخّصونه عن طريقه، إذ لم تكن لديهم الأجهزة الطبّية المتطوّرة والإمكانات التي نمتلكها اليوم، فعن طريق ما يظهر من الألوان على لسان المريض يعرف الطبيب علّة المصاب، والأمر لا يختلف عنه بالنسبة إلى أمراض الأخلاق في روح الإنسان وعقله، فاللسان يظهر لنا الأخلاق الفاسدة والتعقيدات الروحية، وكلّ السلبيات المتعلّقة بالنفس الأمّارة بالسوء، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "إنّ لسان المؤمن وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلّم بشيء تدبّره بقلبه، ثم أمضاه بلسانه، وإنّ لسان المنافق أمام قلبه، فإذا همّ بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبّره بقلبه"(3). وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ هذا اللسان مفتاح كلّ خير وشرّ، فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه كما يختم على ذهبه وفضّته"(4). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "ما الإنسان لولا اللسان إلّا صورة ممثّلة، أو بهيمة مُهمَلة"(5). فمن هذا المنطلق علينا أن نتأنّى ونفكّر كثيرًا قبل أن نعطي رأينا بشأن أحدهم، ولا ينبغي أن نطلق لألسنتنا العنان والحرّية في التحدّث، فقد تكون الكلمة الصادرة منشأ الأذى للغير، أو قد تدمّر حياته نفسيًا ومعنويًا، إذًا علينا أن نَزِن كلامنا، ونعرضه على عقولنا قبل التفوّه به، فكلّ كلمة تصدر منّا، ستُكتب في صحيفة أعمالنا، وسنحاسب عليها، إن كانت خيرًا فخيرًا، وإن كانت شرًّا، فسنحاسب عليها حسابًا عسيرًا، وقد قال الله تعالى في كتابة الكريم: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (ق: 18)، وقوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (الزخرف:80). فيتبيّن لنا ممّا سبق أنّ اللسان في الوقت الذي يكون فيه نعمة إلهية عظيمة إذا ما استُخدم الاستخدام الصحيح وفي طاعة الله، يكون خطيرًا جدًا، إذ يُمكن أن يكون مصدرًا للذنوب والخطايا، فيهوي بالإنسان إلى أسفل السافلين، ويرسله إلى الحضيض، وبعدها إلى النار. فاللسان بمنزلة الوحش الضاريّ، ليس لديه همّ سوى التدمير والتخريب، فعن سعيد بن جُبير بسنده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "إِذا أَصبح ابنُ آدَمَ، فَإنّ الأعضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسانَ، تَقُولُ: اتِّقِ اللَّه فينَا، فَإنَّما نحنُ بِكَ؛ فَإنِ استَقَمتَ اسَتقَمنا، وإنِ اعوججتَ اعوَججنَا"(6). فعلى الإنسان الإقلال من الكلام، فكلّما كان الكلام أقلّ، كان الزلل أقلّ، والعكس صحيح، فالتزام الصمت في كثير من الأحيان يجعل الإنسان قادرًا على ضبط لسانه والسيطرة عليه، وبذلك سيعتاد قول الحقّ، واجتناب كلّ ما يسخط الله، ويُستثنى من ذلك ذكر الله تعالى، فكلّما ذكر الإنسان ربّه كثيرًا، كلّما ابتعد عن اللغو والهذر غير المجدي والفضول المؤدّي إلى ما لا يُحمد عقباه. فإذا أردنا العيش بسلام فلنقلّل من كلامنا، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "إن أحببتَ سلامة نفسكَ، وستر معايبكَ، فأقلل كلامكَ، وأكثر صمتكَ، يتوفّر فكركَ، ويستنر قلبكَ"(7)، وقديمًا قيل: (إذا كان الكلام من فضّة، فالسكوت من ذهب)، فالواضح من هذه الحكمة أنّ أكثر خطايا بني آدم وذنوبهم من اللسان، فإذا حفظوا لسانهم عن الفضول، وعمّا لا يجوز، فقد ساروا نحو باب عظيم من أبواب العبادة، وفازوا برضا الرحمن جلّ وعلا. رُوي أنّ لقمان الحكيم أمره سيّده ذات مرّة بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها، فذبحها وأخرج اللسان والقلب، وبعد مدّة أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث مضغتين فيها، فذبحها وأخرج منها اللسان والقلب أيضًا، فتعجّب سيّده، وقال: أمرتُكَ أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتَهما، وأمرتُكَ أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتَهما، فقال لقمان: ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا. فاللسان يُعدّ ترجمان القلب، ورسول العقل، ومفتاح شخصية الإنسان الذي يوصله بالناس، فنعرف عن طريقه مَن كانت أخلاقه عالية، يتكلّم وَفق ما أمر الله به؛ ليفوز برضاه وبمحبّة خلقه، ويسعد في الدنيا والآخرة، وأمّا مَن خالف أوامره تعالى، وتكلّم بما لا يرضيه، فقد أعدّ له حسابًا عسيرًا. علينا أن نحرص على عدم إيذاء الآخرين بكلمة تصدر منّا؛ لأنّ اللسان أحيانًا يكون أكثر إيلامًا ووجعًا من الرصاصة التي تصيب القلب، إذ إنّها تدخل القلب فيموت الإنسان، ولا يشعر بشيء بعدها، فتكون رصاصة رحمة، أمّا اللسان فله طعنات لا تجعل القلب يموت، بل يتألّم، ويتعذّب، ويتوجّع من قسوة الكلمات التي انطلقت منه، فلتكن ألسنتنا نظيفة، طاهرة، خالية من السموم؛ لنسعد في الدارين وننال رضا الله (عزّ وجلّ). ........................................... (1) ميزان الحكمة: ج4, ص 2776. (2) الكافي: ج ٢، ص ١١٥. (3) ميزان الحكمة: ج ٤، ص ٢٧٧٨. (4) المصدر نفسه: ج٤، ص ٢٧٧٧. (5) المصدر نفسه: ج٤، ص 2776. (6) المصدر نفسه: ج٤، ص 2778. (7) المصدر نفسه: ج ٣، ص ٢٧٣٧.