الهَاتِفُ المَقطُوعُ

خلود ابراهيم البياتي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 244

وسط أنغام ضحكات الأطفال الجميلة التي تتعالى في خضمّ جولات من اللعب البريء، نسمع رنين الهاتف الأرضي: رن..رن، فيشقّ سُحب الأصوات ويسكت جميعهم، وتتّجه العيون إلى زاوية من الغرفة يوجد فيها طاولة صغيرة، يتربّع على عرشها جهاز الهاتف بكلّ فخر واعتزاز، ويُهرَع جميعهم إليه لتقديم صنوف الولاء ورفع سمّاعته بكلّ حبّ واهتمام، ومن ثمّ إرجاعها إلى مكانها الأمين، وبعد ذلك يعود كلّهم إلى ما كان عليه من الانسجام والاندماج في الأحاديث الجميلة واللعب الأجمل. وتمضي الأيام والسنون، وتأتي رياح المستقبل لتثير أمواجًا متلاطمة من صرعات التغيير اللامحدود، فنجد مفاصل الحياة انقلبت رأسًا على عقب، وبات جميعهم لا يعلمون ماذا يحدث، وكلّهم يوجّهون أصابع الاتهام إلى مَن حولهم، وفي الوقت ذاته ينسون أنّ إصبعًا واحدًا موجّهًا إلى الآخر، بينما ثلاثة أصابع موجّهة نحوهم أنفسهم، ونتوقّف هنا لبرهة من الزمن؛ لنقوم بمراجعة بسيطة لجزء صغير من الحياة اليومية، فعندما نجول بأبصارنا في أيّ اتّجاه كان، فسنجد جميعهم قد وجّه نظره وكلّ تركيزه على جهاز صغير، تحتضنه يداه بكلّ قوةٍ خوفًا من ضياعه أو ابتعاده عنه، حيث أصبح كأنّه قطعة من جسده، بل وصل الأمر ببعضهم إلى حدّ الشعور بأنّه أوكسجين الحياة، ومن دونه تتوقّف نبضات قلبه، فهذا الجهاز الصغير الذي استحوذ على كلّ نواحي حياتنا، أصبح يخنقنا كأنّه أداة لكتم الأنفاس، فذاك الهاتف القديم كان مقيّدًا بأسلاك، ممّا جعلته ثابتًا لا يتحرّك، وهذا الجهاز الحديث تحرّر من قيود الأسلاك، لكنّه قام بتقييد عقول البشر وأفكارهم، وجَعَلهم مدمنين عليه. نحتاج إلى إجراء حوار ذاتيّ بسيط يكون فيه المُرسِل الشخص نفسه، والمُرسَل إليه ذاته ومشاعره؛ لنرى ماذا نريد من أنفسنا؟ وماذا نريد من هذا الجهاز الصغير؟ وكيف تحكّم بنا بكلّ سعادة ورضا منّا؟ وهل يستحقّ أن نقدّم له كلّ هذا الولاء والطاعة؟ نجد أنّ أغلب ما تمّ اختراعه من أجل راحة البشر قد تمّ استخدامه بطريقة سلبية، وتسبّب في انفصام العلاقات الاجتماعية، وأحال أسوار البيوت الحصينة إلى رماد بعد إحراقها بصنوف المشاكل والأزمات نتيجةَ اضمحلال القيم والمفاهيم الرصينة، كيف لا وقد أصبح لكلّ شخص عالمه الخاصّ المكنون خلف تلك الشاشة الصغيرة التي يتحكّم بها بإصبع واحد؟! كم نتوق جميعنا إلى جمال الشعور بالحرّية، فأفضل أنواعها هو تحرير أنفسنا من احتلال ما في أيدينا.