رياض الزهراء العدد 191 شخصيات ملهمة
مَلِيكَةُ القُلُوبِ
حمامة بيضاء حطّت رحلها في بيت النبوّة ومعدن الرسالة، بيت الإمام العاشر (عليه السلام)؛ لتكون عروسًا لإمامنا الحسن العسكريّ (عليه السلام)، صاغتها يد القدرة فأنجبتها حسناء في خصالها، أصيلة في شمائلها، شمّاء في نظراتها، ذات حِجر طاهر، ومنبت مطهّر، اختارها المنّان لتكون نرجسة المكان، لتلد للدنيا صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف). تأدّبت بآداب البيت العلويّ على يد السيّدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليهم السلام)، ألقمتها الفروع والأصول كالعسل المصفّى في لقمة سائغة، سوسنة الأودية، عبق الزهور، تنوّر فؤادها بنور اليقين، فبان الإشراق في عينيها، وازدان بحبّ مولاها وإمامها، فانتشى العطر يملأ أركان البيت المحمّدي المطهّر. أغلب الناس لا يعرف عن أمّ الإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) إلّا النزر اليسير، فسيّدتنا نرجس (عليها السلام) لا تُذكر إلّا في ليلة النصف من شعبان المعظّم. هي سيّدة جليلة القدر، تميّزت بمكانة عالية عند الله تعالى، صدّيقة طاهرة، وُصفت في زيارتها المعروفة بـ: "...يا شبيهةَ أمّ موسى، وابنة حواريّ عيسى..."(1)، صفات قمّة في العلوّ والرفعة، فضلًا عن كونها بابًا من أبواب الله تعالى، يقصده المحتاجون والمنكوبون، فلا يعودون إلّا بحوائج مقضيّة، وهموم مكشوفة بإذنه تعالى. فما مقامها عند أهل البيت (عليهم السلام)، إذ تحاط بهذه الهالة من الاهتمام، فأكثر أمّهات الأئمة (عليهم السلام) من الإماء، ولهنَّ مقام معيّن، لكن السيّدة نرجس (عليها السلام) ما موقعها؟ وبِمَ تميّزت عنهنَّ؟ وردت روايات عديدة في مدحها عن ثلاثة من الأئمة الذين سبقوا زمانها، فقد ورد عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) عندما سُئل عن الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه الشريف) أنّه قال: "...فإنّ الله يخفي ولادته، ويُغَيّب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيّدة الإماء، يطيل الله عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته ...."(2)، والتعبير نفسه ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، فعن أبي بصير قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "إنّ سنن الأنبياء بما وقع بهم من الغيبات، حادثة في القائم منّا أهل البيت حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة"(3)، قال أبو بصير: فقلتُ: يا بن رسول الله، ومَن القائم منكم أهل البيت؟ فقال (عليه السلام): "يا أبا بصير هو الخامس من ولد ابني موسى، ذلك ابن سيّدة الإماء، يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون ..."(4)، وعن الأزديّ، قال :سألتُ سيّدي موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن قول الله (عزّ وجلّ): وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً فقال: "النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب"، فقلتُ له: ويكون في الأئمة مَن يغيب؟ قال: "نعم، يغيب عن أبصار الناس شخصه، ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره، وهو الثاني عشر منّا، يسهّل الله له كلّ عسير، ويذلّل له كلّ صعب، ويظهر له كنوز الأرض، ويقرّب له كلّ بعيد، ويبير به كلّ جبّار عنيد، ويهلك على يده كلّ شيطان مريد، ذاك ابن سيّدة الإماء الذي يخفى على الناس ولادته، ولا يحلّ لهم تسميته حتى يظهره الله (عزّ وجلّ)، فيملأ به الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت جورًا وظلمًا"(5). فنلاحظ كيف أنّ الأئمة (عليهم السلام) بشّروا بها، وبيّنوا فضلها بأنّها ليست بالمرأة العادية، بل هي سيّدة الإماء. وفي حديث الولادة الطاهرة التي حصلت ليلة النصف من شهر شعبان المعظّم، في تلك الرواية عندما دخلت السيدة نرجس (عليها السلام) على السيّدة حكيمة عمّة الإمام الحسن العسكريّ (عليهما السلام)، قالت: سيّدتي كيف أمسيتِ؟ فأجابتها السيّدة حكيمة: بل أنتِ سيّدتي وسيّدة أهلي(6). فالسيّدة حكيمة تقول: (أنتِ سيّدة أهلي!!) وهي السيّدة العالمة، الجليلة، العظيمة الشأن، الهاشمية النسب، إذن السيّدة نرجس (عليها السلام) ليست أمة عادية، بل فوق المستوى وأرفع. وقد وردت في الروايات الشريفة أسماء عديدة لها، من قبيل صقيل، سوسن، مليكة، ريحانة، نرجس، وأسماء أخرى، وربّما يكون تعدّد الأسماء نوعًا من التغطية على الإمام صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه الشريف) لحمايته، فلا يعرفون مَن أمّه، مثلما تعدّدت الروايات في قصّتها، ففي الرواية الأولى التي تفرّد بها الشيخ الصدوق في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة) جاء فيها أنّها وقعت أسيرة بيد المسلمين، ثم وصلت إلى بيت الإمام الهادي (عليه السلام)، والرواية الثانية جاء فيها أنّها وُلدت في بيت السيّدة حكيمة، وهي التي تولّت تربيتها والعناية بها(7)، إلى أن تزوّجها الإمام العسكريّ (عليه السلام)، وزاد الله تعالى شرفها، ورفع منزلتها بأن جعلها الوعاء الطاهر لمولانا الحجّة بن الحسن (عجّل الله فرجه الشريف). نسأل الله تعالى أن يعرّف بيننا وبينها يوم القيامة لننال شفاعتها وشفاعة ولدها إنّه حميد مجيد، ونسأله أن يوفّق المؤمنات بأن يربّينَ أولادهنَّ تربيةً مهدويةً؛ لنؤسّس مجتمع دولة العدل الإلهي. ...................................... (1) مفاتيح الجنان: ص (2) كمال الدين وتمام النعمة: ج١، ص٢٩٧. (3) القذّة: ريش السهم. (4) كمال الدين وتمام النعمة: ج٢، ص٣٢٤. (5) بحار الأنوار: ج51، ص١٥١. (6) المصدر نفسه: ج51، ص٢. (7) عيون المعجزات: ص ١٢٧.