رياض الزهراء العدد 191 طفلك مرآتك
حُقُوقُ الطِّفلِ عِندَ الإِمامِ زَينِ العَابِدينَ (عليه السلام)
إنّ محبّة الأولاد فضيلة من فضائل الفطرة الإسلامية، فهم من الأمانات التي وضعها الله تعالى في أعناق الآباء، وهم المسؤولون عنها، فإن أحسنوا إليهم بحُسن التربية، كان لهم عظيم الأجر والثواب الجزيل، وإن أساؤوا إليهم استوجبوا العقوبة. وتُعدّ مرحلة الطفولة المرحلة الأهمّ في حياة الإنسان؛ لأنّها حجر الأساس في بناء شخصيته، إذ تشتدّ قابليته للتأثر بالعوامل المحيطة، ويكسب ألوانًا من المعرفة، وتتفتّح ميوله واتجاهاته، مثلما أنّ الطفل يولد بقوى فطرية تصلح للتوجيه، إمّا إلى الخير أو إلى الشرّ، فإذا بُنيت المرحلة بناءً صحيحًا، وذلك بوجود العناية والرعاية، تمتّع الطفل باستقرار عاطفي ونفسي، لأنّ قواه ستوجّه إلى الخير، فتنشأ شخصيته سوية، نافعة للأسرة والمجتمع. ومن هذا المنطلق حرص أهل البيت (عليهم السلام) أشدّ الحرص على الاهتمام بهذه المرحلة العمرية، فتركوا لنا إرثًا عظيمًا، منه رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي خصّ الطفولة بجانب كبير من الاهتمام والرعاية. معنى حقوق الطفل: تُعرف بأنّها مجموعة من الحقوق المادّية والمعنوية التي يجب أن يتمتّع بها الطفل لتمكّنه من العيش بشكل سليم وآمن، كي تترعرع شخصيته ترعرعًا كاملًا ومتناسقًا. حقوق الطفل في رسالة الحقوق: أكّد الإمام زين العابدين (عليه السلام) على حقوق الطفل في نصوص متعدّدة في رسالته الشريفة، وأوردها في أكثر من موضع، تارة بألفاظ صريحة وواضحة الدلالة، ظاهرة المعنى لا تحتاج إلى تفسير، كحقّ الولد وحقّ الصغير وحقّ الرعاية به، وتارة ذكرها (عليه السلام) ضمنًا، وأشار إليها من بعيد، كحقّ الزوجة، وحقّ الأمّ، وعلى ضوء ما تقدّم يمكن تقسيم حقوق الطفل في هذه الرسالة إلى الأقسام الآتية: أولًا: حقوق الطفل قبل الولادة: أولى الإسلام أهمّية كبيرة لحقوق الطفل؛ لما لها من ارتباط وثيق بحياة الإنسان الذي كرّمه الله (عزّ وجلّ)، وجعله خليفة في الأرض، كما في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة: 30)، حتى تتمّ الخلافة على أتمّ وجه، لابدّ من أن يحصل الإنسان على حقوقه التي كفلها الإسلام له، وهذه الحقوق تبدأ قبل أن يُخلق، وقبل أن يكون، فأول الحقوق التي ينبغي ضمانها للطفل قبل تكوينه هو حقّ الأسرة التي ينشأ فيها، فالأسرة هي الحجر الأساس لبناء مجتمع سليم، وقوي، ورصين، والأساس الصحيح الذي تُبنى عليه الأسرة هو الزواج، وقد بيّن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في أحاديث كثيرة الأسس التي تُبنى عليها الأسرة الصالحة، من أهمّها أن ينشأ الطفل في ظلّ علاقة شرعية، وأن يحسن كلّ من الشريكين اختيار الآخر، بخاصّة اختيار الزوجة؛ لأنّها ستكون أمًّا فيما بعد، مثلما جاء عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "تخيّروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم"(1). وقد ذكر الإمام زين العابدين (عليه السلام) الزوجة في رسالته، وأقرّ لها حقوقًا، مثلما عليها واجبات، جاء في قوله: "...وأمّا حقّ الزوجة، فأن تعلم أنّ الله (عزّ وجلّ) جعلها لكَ سكنًا وأنسًا، فتعلم أنّ ذلك نعمة من الله عليكَ، فتكرمها وترفق بها، وإن كان حقّكَ عليها أوجب، فإنّ لها عليكَ أن ترحمها؛ لأنّها أسيركَ وتطعمها وتكسوها، وإذا جهلت عفوتَ عنها..."(2). لقد أوجبت الشريعة الإسلامية على الوالدين رعاية الجنين من قبل لحظة تكوينه في بطن أمّه حتى خروجه إلى الحياة، إذ حرّمت الشريعة الإجهاض، وعدّته من قتل النفس التي حرّم الله قتلها إلّا بالحقّ، ونظّمت أحكامًا خاصّة به حفاظًا على حياة الجنين، وخصّصت عقوبات لكلّ مَن يعتدي على حقّه في الحياة. في حين أنّ القوانين الوضعية قد أهملت حقّ الجنين في الحياة، أو حقّ رعايته وأمّه، بخاصّة اتفاقية حقوق الطفل للعام (1989م)، وبعدها صدرت اتفاقية ذات طابع عالمي، جاءت لحماية حقوق الطفل، لكنّها لم تكن بمستوى الطموح لحماية حقوق الطفل، بخاصّة حقوق الطفل قبل الولادة، فكان المأمول أن تعالج هذه الاتفاقية بشكل معمّق حقوق الطفل والأمّ في مرحلة الحمل وقبل الوضع، إلّا أنّها خيّبت الآمال عندما اقتصرت في ديباجتها على توجيه الدول إلى حاجة الطفل للرعاية الخاصّة، ولم نجد فيها نصًّا واحدًا يهتمّ بتعريف الجنين، أو تجريم الإجهاض، ويعدّ هذا الأمر نقصًا غير مقبول لاتفاقية صدرت في القرن العشرين، وصادقت عليها معظم الدول، حتى المسلمة منها. ثانيًا: حقوق الطفل بعد الولادة: من الحقوق التي أكّد عليها الإمام السجّاد (عليه السلام) في رسالته هي حقّ الولد، فقد ذُكر الولد في قوله (عليه السلام): "...وحقوق رحمكَ كثيرة، متّصلة بقدر اتّصال الرحم في القرابة، وأوجبها عليكَ: حقّ أمّكَ، ثم حقّ أبيكَ، ثم حقّ ولدكَ..."(3)، وقوله (عليه السلام): "...وأمّا حقّ ولدكَ، فتعلم أنّه منكَ، ومُضاف إليكَ في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وأنّكَ مسؤول عمّا وليته من حُسن الأدب، والدلالة على ربّه، والمعونة على طاعته فيكَ وفي نفسه، فمُثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربّه في ما بينه وبينه بحُسن القيام عليه، والأخذ له منه، ولا قوة إلّا بالله..."(4)، ومن النصوص الواردة أعلاه نلاحظ أنّ الإمام (عليه السلام) قد عالج حقوق الطفل عن طريق انتمائه إلى ثلاث مؤسّسات، وهي الوالدين، والمجتمع، والمؤسّسة التعليمية. 1- الحقوق الواجبة على المؤسّسة الأولى (الأسرة): اهتمّ الإمام (عليه السلام) في رسالته بهذا الجانب اهتمامًا كبيرًا حرصًا منه على قيام مجتمع سليم، وصيانةً لأفراده من الفساد، فأطفال اليوم هم شباب المستقبل ودِعامة المجتمع، فأول خطاب وجّهه الإمام (عليه السلام) كان إلى الوالدين؛ لأنّهما المؤسّسة الأولى التي يتعلّم منها الطفل، وتُعنى برعايته وتوجيهه، فهو يحتاج إلى مَن يرشده، وينمّي في نفسه الصفات الحميدة، ويهذّب سلوكه عبر غرس المبادئ والقيم السامية، فالطفل بطبيعة الحال، وبسبب قلّة خبرته يكون شديد التأثر بمحيطه، فهو يأخذ ما يُقدّم إليه، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا، وبما أنّ شخصيته تكون في طور التشكيل والنموّ، فيكون من السهل اقتحامها بوسائل بسيطة، فتقع مسؤولية تشكيل الطفل على الوالدين، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "ألا كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّتِهِ..."(5). - حقوق الطفل على المؤسّسة الثانية (المجتمع): من أجل إحداث التغيير في المجتمع، لابدّ من البدء بالطفل؛ لأنّه الحقل الخصب للتغيير في ما إذا لجأنا إلى الأساليب التربوية القادرة على مخاطبة عقله، وهذا لن يتحقّق إلّا بتهيئة الظروف الاجتماعية، والتعليمية، والقانونية القادرة على ذلك، وأول حقّ أقرّه الإمام السجّاد (عليه السلام) هو الرحمة، فهي المفتاح لتحقيق الواجبات الأخرى: "...وَأَمّا حَقّ الصّغِيرِ فَرَحْمَتُهُ، وَتَثْقِيفُهُ، وَتَعْلِيمُهُ..."(6)، فالدول والمجتمعات تنهض بحسب مبادئ التربية لأطفالها، وعليه فالنكبات التي تتعرّض لها ما هي إلّا نتاج سوء التربية، والمبادئ التي قامت عليها تلك المجتمعات. - حقوق الطفل على المؤسّسة التعليمية: بعد أن بيّن الإمام السجّاد (عليه السلام) حقوق الطفل في المؤسّستين السابقتين، توجّه إلى مؤسّسة أخرى لا تقلّ أهمّية عن سابقتيها، وهي المؤسّسة التعليمية، فقال (عليه السلام): "...وأمّا حقّ رعيّتكَ بالعلم، فأن تعلم أنّ الله قد جعلكَ لهم خازنًا فيما آتاكَ من العلم..."(7)، فعلى الرغم من أنّه لم يتمّ ذكر الطفل صراحة في هذا النصّ، إلّا أنّ الإمام (عليه السلام) ذكر كلمة (الرعيّة) وهي أعمّ وأشمل، فالتعلّم لا يختصّ بسنّ معيّنة، بل بإمكان الفرد أن يتعلّم في كلّ يوم ولمدى الحياة، إلّا أنّ السنوات الأولى هي أفضل مراحل التعلّم، ففيها يتلقّى نسبة كبيرة من القيم، والخصال التربوية التي يحاول المربّي زرعها في نفسه، فيبدأ الطفل طريقه نحو المجتمع الذي يعيش فيه بطريقة نظامية عبر دخوله المدرسة، وانتظامه في التعليم الذي ارتضاه المجتمع لأبنائه. ......................................................................................... (1) ميزان الحكمة: ج 2، ص 1183. (2) تحف العقول: ص188. (3) المصدر نفسه: ص183-189. (4) المصدر نفسه: ص194. (5) ميزان الحكمة: ج ٢، ص ١٢١٢. (6) تحف العقول: ص 270. (7) المصدر نفسه: ص188.