الدَّولَةُ العَادِلَة
سؤال قد يتبادر إلى ذهن كلّ قارئ عن الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وعن نتائج قيامه المبارك في إقامة دولة العدل الإلهي وامتدادها على أرجاء المعمورة، وهذا العنوان بما هو عنوان حلمت به البشرية منذ يومها الأول، بل قد كانت هذه الدولة هي الهدف من رسالة الأنبياء (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ)/ (الحديد:25) فإن الآية الكريمة تبيّن أنّ الرسل والأنبياء (عليهم السلام) بُعثوا بالشرائع والدعوة إلى عبادة الله تعالى؛ لتتحقق للبشرية السعادة بتطبيق العدالة، ولم يُتأتَّ للأنبياء (عليهم السلام) تحقيق هذا الهدف، وعملوا من أجل الارتقاء بالبشرية في سبيل إرساء قواعد هذه الدولة، فما هي معالم هذه الدولة وقوانينها؟ هل هي فكرة أفلاطون نفسها حينما كتب عن مدينته الفاضلة في محاور الجمهورية التي كان يرى فيها أنه لا يجب أن تملك طبقة الحكام عقاراً خاصة، ولا يكون لأحدهم مال أو مخزن، ولا يكون للرجال زوجات؛ لأنهم يجب أن يتحرروا من الأنانية، ويجب أن تكون النساء بلا استثناء أزواجاً مشاعة فلا يعرف الابن أباه، ومن الواضح أنّ أفكاره عن اشتراكية النساء والأولاد والأموال لا تتفق مع الأديان السماوية، وتصطدم مع ضمير الإنسان الحر، وتخالف الفطرة الإنسانية. وقد ظلت فكرة أفلاطون ومَن تبعه من الفلاسفة مجرد أحلام اصطدمت بالواقع، ولم تجد لها منفذا للتحقيق، وقد تبع أفلاطون في هذه الفكرة كثيرٌ من الفلاسفة الغربيين، بل تبعه بعض فلاسفة العرب المسلمين كالفارابي في القرن الرابع الهجري، إذ طرح فكرة المعمورة الفاضلة كأعلى أشكال الاجتماع الإنساني، لكنها أحلام فلاسفة غير ممكنة التحقيق. وذلك؛ لأنه كان على الفلاسفة قبل التحدث عن فكرة المدينة المثالية أن يحلّوا إشكاليات الخطايا عند الإنسان كالرغبة، والشرهة، والجشع، والكسل، والغضب، والحسد، والغرور، وأن يطرحوا حلولاً عملية لجذور الصراع في المجتمع، وتضارب المصالح، وصراع الطبقات، وازدواج المعايير. فإذن ما هي الأسس التي تقوم عليها فكرة العدل الإلهي؟ وهل معنى العدالة هو أن تتحقق حكومة عادلة لا تنصرف أبداً باتجاه الظلم؟ يقول السيد الخميني: إنّ معنى ملء الأرض عدلاً أسمى وأرفع وأكثر سعة وشمولية من مجرد قيام دولة عدل لا تحيف. إنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) يحمل على عاتقه مسؤولية تقويم جميع صور الانحراف المذكورة وتصحيحها؛ ليعيد جميع الخُطى على جميع الصُّعُد في مسار الاستقامة والاعتدال، بحيث يتحقق على أرض الواقع معنى: يملأ الأرض عدلاً بعد ما مُلئت جوراً. إذن كيف سيبدأ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) بإنشاء دولة يسودها العدل والأمان في ظلّ وصول الإنسان في عالم المادة إلى أعلى درجات التعلق المادي غير المحدود، وسيادة فكرة الملكية في هذا العالم؟ إذن سوف يبدأ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) من الإنسان نفسه ليحرره من قيود الأشياء، ويعود به إلى حقيقته الإنسانية، لا أن يحرر الأشياء من قيود الإنسان، إذ ليس للأشياء فاعلية تأثير كما يقول العلّامة مرتضى مطهري: فمتى ما تخلص الإنسان من تعلقاته الدنيوية، وارتقى إلى مستوى الإنسانية، ستكون حتماً النتيجة مجتمعاً عادلاً، فالموجود البشري ببعديه – المادي والروحي – هو حيوان أولاً بالطبع، ثم هو إنسان ثانياً بالاكتساب، والإنسان يحقق إنسانيته الموجودة في وجوده بالقوة وبالفطرة في ظلّ الإيمان، وتأثير العوامل الصحيحة التربوية والتعليمية. وما دام الموجود البشري بعيداً عن إنسانيته فهو حيوان، وليس بالإمكان إحلال وحدة معنوية في عالم الحيوان. إنّ وصول الإنسان إلى درجة التوحيد العملي يكون في اتجاه عبادة الله الواحد الأحد، ورفض كلّ عبادة قلبية باتّباع الهوى، وعبادة المال والجاه ونظائرها، ووحدة المجتمع ككلّ في اتجاه عبادة المثل الأعلى الحق عن طريق رفض الطواغيت، وإزالة ألوان المظالم الاجتماعية، وما لم يصل الفرد والمجتمع إلى هذه الوحدة لا يبلغان السعادة، ولا يمكن لهذه الوحدة أن تتحقق إلّا في ظل عبادة الله تعالى. إذن إن فكرة دولة العدل الإلهي هي واقعية الحدوث، لكن باكتمال مقدماتها لتحقيق نجاحها وأولها وجود القائد الروحي التوحيدي الذي يُراقب تطبيق النظرية الإلهية وتحقيق إنشاء مجتمع عادل، زيادةً على نضوج البشرية ووصولها إلى درجة من المعرفة التي تؤهلها إلى تحديد وجهتها الصحيحة في الانقياد نحو القائد باتّباعه والتسليم له في تقبّل فكرة التوحيد والبعد عن الشرك بكلّ أنواعه؛ لأن الشرك بكلّ أبعاده وصوره هو تعبير واضح للظلم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)/ (لقمان:13)، وليس هناك شرك أكثر ضياعاً للإنسان من اتّباع الهوى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)/ (الجاثية:23). إذن لا سبيل إلى حياة المجتمع العادل، وتحقيق السعادة من دون نظام توحيدي يحكم منظومة الإنسان وتفكيره.