رياض الزهراء العدد 191 مهرجان روح النبوة الخامس
كَلِمَةُ سَماحَةِ المُتَوَلّي الشَّرعي لِلعَتَبَةِ العَبّاسِيَّةِ المُقَدَّسَةِ السَيِّدِ أَحمدَ الصافي (دام عزّه):
السَيِّدَةُ الزَّهراءُ (عليها السلام) أعطتنا دَرسًا خَاصًّا بِثَقَافَةِ الشُّكرِ.. في البداية نهنّئ الأعزّاء الحضور وجميع مَن يسمعنا بولادة السيّدة الزهراء (سلام الله عليها)، سائلين الله تبارك وتعالى أن يتقبّل هذا العمل المبارك وأن يرزقنا زيارتها في الدنيا وشفاعتها في الآخرة. نرحّب بالأخوات الفاضلات من داخل العراق وخارجه متمنّين لهنَّ طيب الإقامة، فأهلًا وسهلًا بهنَّ وهنَّ يشاركنَ أخواتهنَّ هذا الاحتفال المبارك. إنّ الحديث عن الزهراء (عليها السلام) حديث صعب من جهة أنّ هذه الشخصية العظيمة جعل الله تعالى في مكنون خلقها أسرارًا لا يقوى مَن مثلي على معرفتها، فهذه السيّدة الجليلة أخذت نصيبًا وافرًا من أحاديث جميع الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وتكفيها تلك الإشارة التي ذكرها النبيّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله) عندما كان يصفها بأنّها (أمّ أبيها)، وهذا التعبير مختزل لكنّه عميق، فكيف تكون البنت التي هي من صلب الرجل أمّه؟ ومداليل هذه الجملة الكريمة المختصرة سوف لن أتعرّض لها الآن، إنّما أردتُ أن أشير فقط إلى أنّ مقامات الزهراء (عليها السلام) مقامات عظيمة، بيّن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّها تلك الشخصية التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وهذه الموازين الحقّة في كلمات سيّد الرسل (صلّى الله عليه وآله) تنطوي على مكنون خاصّ انفردت به سيّدة النساء (سلام الله عليها). هناك موارد من الممكن أن نستفيد منها من سيرتها (عليها السلام) عبر موقف واحد، ألا وهو الموقف الذي مرّت به بعد شهادة أبيها (صلّى الله عليه وآله)، فهي كلّها عطاء، ورحمة، وعلم، وعبادة، وإرشاد، وتوجيه، مرّت بظرف خاصّ لا يقوى عليه إلّا الزهراء (عليها السلام)، وتكلّمت بكلام لافت للنظر، نحاول أن نتعلّم من خطبتها الفدكية الحافلة بالمعاني، فنقف عند افتتاحيتها التي بدأتها (عليها السلام) بالحمد والثناء على الله تعالى، فقالت: "الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء على ما قدّم..."، ثم ذكرت: ..."من عموم نِعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها..."، والذي نستفيده من هذا المقطع أنّ مسألة الحمد لله (عزّ وجلّ) ثقافة خاصّة اهتمّ بها المعصومون (عليهم السلام) وهو أنّ الإنسان يحمد الله تعالى في الرخاء والشدّة، والحدث الذي مرّت به الزهراء (عليها السلام) رزيّة، وهذه الرزيّة تدعو الإنسان عادةً إلى أن تؤثر فيه فيتكلّم بكلام حزين، وهي (عليها السلام) توجّهت إلى الله تعالى بكلّ ثبات حامدةً شاكرةً لنِعمه، وأعطتنا درسًا خاصًّا بثقافة الشكر، إذًا لابدّ من أن نتوجّه إلى الله تعالى وأن نشكره على آلائه. قد نغفل عن الآلاء والنِعم وهذه مشكلتنا؛ لأنّنا قد نتأثر ببعض المؤثرات، فننشدّ إليها ونغفل عن الأمور الأهمّ التي تؤثّر في حياتنا في الدارين: ...فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(1)، فالجهة الأولى أنّ الزهراء (عليها السلام) وقفت وهي حامدة شاكرة لأنعُم الله تعالى، بعد ذلك انتقلت إلى قضيّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهو أمرٌ مقرونٌ بالحمد، فالمعصومون (عليهم السلام) يبدؤون عادةً بالحمد ويردفونه بذكر النبيّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله)، فبيّنت (عليها السلام) ماهيّة دور النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الذي قام به، ثم نسبت نفسها إليه، وهذه النقطة المهمّة؛ لأنّها عندما خطبت كانت تريد أن توضّح أمورًا، فلابدّ من أن تمهّد لهذا الأمر ببعض المقدّمات، وإن كان الجميع يعلم، لكن الحدث قد يجعل الإنسان يُصاب بالدهشة ويغفل، ثم عرّجت على أمر مهمّ وهو علاقة النبيّ الغائب بزوجها أمير المؤمنين الحاضر؛ فعلاقة أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) هي علاقة أخوّة، فقالت (عليها السلام): "...كلّما حشوا نارًا للحرب أطفأها الله، ونَجَم قرن الضلالة وفغر فاغر من المشركين قذف أخاه في لهواتها..."(2)، فكلّ ظرف صعب كان يمرّ على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان يلجأ فيه إلى أخيه؛ لأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفس النبيّ وصِنوه، فعندما يعتمد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) على عليّ (عليه السلام) إنّما يعتمد على نفسه، حتى تقول: "...فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه..."(3)، بمعنى أنّه يحقّق ما جاء به النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ويبيّنه بشكل واضح، ثم بعد ذلك حدث الذي حدث، وعبّرت بتعبير بلاغي عن القضيّة قائلةً: "...فلمّا اختار الله لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم دار أنبيائه، وأتمّ عليه ما وعده، ظهرت حسيكة النفاق، وسمل جلباب الإسلام..."(4)، بدأت (عليها السلام) تبيّن بعض ما مرّت به الأمة من مشاكل بعد شهادة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأنّ رحيله قطعًا خسارة لجميع المسلمين. عندما نتأمّل هذه الخطبة من بدايتها إلى نهايتها، فلا بأس بأن نفكّر فيها مليًّا، سواء في سياق الصياغة الأدبية أو الأسلوب الذي ظهرت فيه، حتى إنّ بعضهم كان يقول: ما تخرم مشيتها (عليها السلام) مشية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فعندما خرجت، خرجت بالطريقة نفسها التي كان يخرج بها النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، حتى جلست في مكان ووُضعت ملاءة وستر، وتحدّثت بعدما أنّت أنّةً أجهش القوم لها بالبكاء، فالزهراء (عليها السلام) كانت تحمل كلّ ما يتعلّق بالرسالة، فقد وُلدت في حجر النبوّة واقترنت بالإمامة، وعاشت في الظرف الذي يستدعي السؤال عن مراهنتها (عليها السلام)، فعندما ظهرت وخطبت فعلى أيّ شيء راهنت؟ وماذا كانت تريد (عليها السلام)؟ بلا شكّ تريد الانتصار، وهو ليس الانتصار العددي، إنّما تريد أن يفهم الآخرون حقيقة ما يجري، وهذا يكون في مورد تراهن فيه على وعي المخاطب، وهي سيرة الأنبياء عمومًا، فإنهم يعتمدون على وعي المخاطبين، والقرآن الكريم يستعرض سيرة موسى بن عمران (عليه السلام) الذي راهن على وعي أمّته عندما حصلت المناوشة مع فرعون، وعيسى (عليه السلام) يعتمد على وعي الآخرين عندما جاء بالمعجزات، وعلى المخاطب أن يفهم أنّ عيسى (عليه السلام) ليس شخصًا عاديًا، إنّما هو نبيّ، والنبيّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله) الذي بعثه الله تعالى في وقت كانت هناك جاهلية كبيرة حتى إنّ الأصنام كانت تُعبد في جوف الكعبة المشرّفة وهي مركز التوحيد إنّما اعتمد على وعي هؤلاء، والزهراء (عليها السلام) على هذا المنوال، إنّما طلبت النصرة من المهاجرين والأنصار اعتمادًا على وعي الناس وفهمهم، والإمام الحسين (عليه السلام) عندما قال: "...إنّما خرجتُ لطلب الإصلاح..."(5)، كذلك. والسؤال هو: هل تحقّق ما أرادته الزهراء (عليها السلام)؟ وهل تحقّق ما أراده الحسين (عليه السلام)؟ الجواب أجل، فطلب النصرة وطلب الإصلاح قد لا يتحقّق في وقته، فالإمام تكلّم وأخذ عياله وأصحابه، وكان الطريق واضحًا لأصحابه، أمّا معسكر العدوّ فقد امتلأ جهالةً وعصبيةً وقبليةً دنيا، والنتيجة أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) استُشهد، والمحيطون به كانوا يأنسون بالمنيّة مثلما يأنس الطفل بمحالب أمّه، على أنّ هذه الشهادة لا بدّ من أن تحقّق الصحوة ولو بعد حين، واليوم سيّد الشهداء (عليه السلام) يملك الدنيا، والزهراء (عليها السلام) لولا أنّها حقّقت بعضًا ممّا أرادته لما كنتنَّ اليوم تحتفلنَ بذكرى مولدها (عليها السلام)، فهذا الذي أرادته وهو إيقاظنا وصحوتنا. قد يمرّ الإنسان في الدنيا بمجموعة من الابتلاءات، لكن هذه المناسبات الولائية ترجعنا إلى الطريق الصحيح، فنحن تعوّدنا في كلّ سنة أن نكون في خدمة المعصومين (عليهم السلام) أكثر من مرّة، وفي كلّ مناسبة تجدنا نستلذّ روحيًا حين تأتينا هذه المناسبات، وإن كانت حزينة علينا نبكي، لكن لا لضعف بل استردادًا للقوة، فالإنسان عندما يبكي بين يدي الله تعالى فأنّه يحصل على القوة، والبكاء على ذنب أو على مصيبة حلّت بالمعصومين (عليهم السلام) هو بكاء قوة، يخلق الدافع عند الإنسان ليكون عبدًا صالحًا، كذلك مناسبات كهذه المناسبة التي تجعلنا نبتهج بأنّ سيّدة النساء (عليها السلام) قد وُلدت بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فالإنسان يبتهج في عيد ميلاد أبيه أو ابنه، وهذا وضع نفسي لكن في حدوده الشخصية، لكنّنا عندما ننظر إلى ولادة شخصية عظيمة مثل الزهراء (عليها السلام) ثم يأتي الإمام يشجّعنا على إحياء هذه المناسبة، فلا شكّ في أنّ فيها ابتهاجًا، والقيمة المضافة إلينا أن نكون في كنف الزهراء (عليها السلام) بمعنى أنّنا إن أبقانا الله تعالى وإياكم في العام القادم وأيضًا إذا أردنا أن نُحيي هذه الولادة العظيمة فلا بدّ من أن نستفيد منها شيئًا نضيفه إلى شخصيتنا، ويُتوّج ذلك بإضافات مستقبلية في ولادتها أو من ذرّيتها المباركة. فقرات من خطبة الزهراء (عليها السلام) المباركة مررنا عليها بشكل مختصر، لكن هذه الانتقالة مهمّة في حياتنا، نتعلّم منها الحمد والشكر، فالإنسان لا يستطيع أن يُحصي نِعم الله، ومجرد علمه أنّه لا يحصيها هو من مصاديق الشكر له تعالى، هذا الوجود المقدّس كيف نتعامل معه؟ وكيف الإنسان تُخلق داخله دواعي الوعي والقوة، فالله تعالى أعطانا العقل ولا بدّ من أن نفكّر به بما ينفعنا، والإنسان عندما يخطو خطوة يثق بها، فستكون المقدّمة غير مهمّة بقدر النتيجة المهمّة التي يسعى إليها. إنّ نتائج واقعة الطفّ في وقتها كانت مرعبة، فالحسين (عليه السلام) وأهل بيته صُرّع وزهوة النصر بانت على الأعداء وامرأة أسيرة مع مجموعة من الأطفال، إنّه لمشهد مرعب، والإمام السجّاد (عليه السلام) عندما رجع إلى المدينة سأله أحدهم قائلًا: مَن المنتصر؟ بيّن الإمام (عليه السلام) للسائل أنّه إذا أذّن المؤذّن فسوف تعرف مَن المنتصر، فالنبيّ والزهراء والأئمة (صلوات الله عليهم) لا ينظرون إلى خطواتهم، إنّما ينظرون إلى أفق أكبر، فهذه الدنيا تنتهي، والإنسان بما يعمّر ينتهي، لكن ماذا يخلّف؟ الزهراء (عليها السلام) عمرها الحقيقي أكثر من المدّة التي عاشتها من ولادتها حتى شهادتها، فماذا فعلت (عليها السلام) حتى بقيت تتجدّد؟ لا شكّ في أنّها سيّدة نساء العالمين وأدّت مهمّتها الربّانية في هداية البشرية، ولا ننسى تسبيحتها المباركة التي أتحفها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بها. نسأل الله تعالى أن يديم علينا خدمة أهل البيت (عليهم السلام) راجين منه التوفيق للجميع. .......................................................................... (1) سورة الأعراف: الآية 51. (2) كشف الغمة: ج ٢، ص ١١١. (3) بحار الأنوار: ج ٢٩، ص ٢٢٤. (4) كشف الغمة: ج ٢، ص ١١١. (5) بحار الأنوار: ج ٤٤، ص .٣٢٩