التَّسلِيمُ القَلبِيّ
كثيرة هي المحن والرزايا التي وردت على قلب الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، بيد أنّ ما يكلم القلب ويدمي الفؤاد ويثير العجب والخوف، تشكيك مواليه به، بل جرأتهم عليه (عليه السلام) بكلام يُنزّه عنه المؤمن العادل عادةً، فكيف بسيّد شباب أهل الجنّة؟! إنّ الأمر لا يخلو من خلل عقدي قد دعاهم إلى ذلك؛ لأنّ سلوك الإنسان وأخلاقه فضلًا عن التزامه بالأحكام الشرعية لا تُبنى إلّا على العقيدة، فإن صحّت عقيدته صحّت أعماله ونجا في الدنيا وفاز في الآخرة، وإلّا فلا. قال الله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65)، والتسليم القلبي هو الإذعان والانقياد النفسي والرضا الباطني عن كلّ ما يصدر عن الله تعالى وعن المعصومين (عليهم السلام) من قضاء أو تشريعات أو أحكام حتى وإن عسُر على الإنسان إدراكها؛ لأنّ إدراكه مهما رقى فسيبقى محدودًا، فالتسليم الحقّ هو مثل ما جاء عن عبد الله بن أبي يعفور الذي قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): والله لو فلقتَ رمّانةً بنصفين، فقلتَ: هذا حرام وهذا حلال، لشهدتُ أنّ الذي قلتَ حلالٌ حلال، وأنّ الذي قلتَ حرامٌ حرام، فقال (عليه السلام): "رحمكَ الله، رحمكَ الله"(1). وقد أكّدت الشريعة على التسليم القلبي، فقد رُوي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: "لو أنَّ قومًا عبدوا اللهَ وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجُّوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيء صنعَه الله تعالى أو صنعه النبيّ (صلّى الله عليه وآله): ألَا صنعَ خلافَ الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مُشـركين، ثمّ تلا هذه الآية: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، ثمّ قال (عليه السلام): "فعليكم بالتسليم"(2). ولا غرو في ذلك؛ إذ لا يكفي في تحقّق الإيمان مجرّد العلم بكون الحقّ حقًّا، بل لا بدّ من الالتزام بشروطه وعقد القلب على مضمونه، لذا أمكن اجتماع العلم بالشيء مع الجحود به، مثلما جاء في قوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...) (النمل:14)، فإنكار حقّانية الحقّ على الرغم من العلم به أمر وارد في مَن يظلم نفسه بأن يضع مجادلة الله تعالى والمعصوم (عليه السلام) والتشكيك بتشريعاتهم موضع الطاعة المطلقة والتسليم القلبي التامّ لهم، وفي مَن يعلو عليهم بأن يترفّع عن الانقياد لهم والانصياع لأحكامهم، ونحن إذ نقترب من عصر الظهور يومًا فيومًا فلا بدّ لنا بوصفنا منتظِرين لإمامنا (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) من أن نحذر كلّ الحذر ممّا أردى مَن قبلنا، ونبادر إلى إصلاح قلوبنا وتصحيح عقيدتنا؛ لنكون من أَنصاره وأَعوانه والذابِّين عنه، والمسارعين إليه في قضاء حوائجه، والممتثلين لأوامره والمحامين عنه، والسابقين إلى إرادته والمستشهدين بين يديه، بل علينا أن نجدّ ونجتهد في سبيل بلوغ هذه المرتبة العظيمة وإن بعُد زمن الظهور؛ إذ إنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وإن لم يكن ظاهرًا بيننا إلّا أنّ أقواله وأقوال أجداده الأطهار(عليهم السلام) فضلًا عن كلام الله تعالى بين أيدينا، وواجب علينا التسليم بها، وتطبيق ما تضمّنته من أحكام، وهذا لا يتحقّق إلّا بالتسليم. ................................ (1) اختيار معرفة الرجال: ج 2، ص 518ـ519. (2) تفسير نور الثقلين: ج 1، ص511.