"فُزتُ وَرَبِّ الكَعبَةِ"
"اللَّهُمَّ إِنِّي قَد مَلِلتُهُم وَمَلُّونِي، وَسَئِمتُهُم وَسَئِمُونِي، فَأَبدِلنِي بِهِم خَيرًا مِنهُم..."(1)، أما آن أن تُخضب هذه من هذه! (2) مولاي! كلماتكَ هذه أصعب عليّ من حرّ الحديد، ومنظر رأسكَ الشريف المكشوف للسماء، ويديكَ المنشورتين كصُحف إبراهيم، المرتفعتينِ تضرّعًا إلى الله العزيز، لا يغيب عن مخيّلتي، ولقد كنتُ أعلم أنّكَ مستجاب الدعاء، فلقد رُدّت إليكَ الشمس بعد مغيبها ذات يوم من أيام الله، أفلا يحقّ لي أن أقلق وأخاف؟! ها هو شهر رمضان قد انتصف وتوهّج بدره، ووجهكَ الشريف أشدّ توهّجًا من وجه البدر. ها أنتَ تصوم نهاركَ وتقوم ليلكَ كعادتكَ، والكوفة ترتع في نعمة ما بعدها نعمة، فالفقر غدا من ذكريات الأمس، والناس في بحبوحة من العيش، وكيف لا يكونون كذلك وأنتَ إمامهم؟! قد اكتفيتَ من دنياكَ بطمريكَ، ومن طُعمكَ بقرصيكَ، فلا عهد لكَ بالأثواب المذهّبة التي تُنفق فيها أموال المسلمين، وتُختلس من عراتهم، ولا بالأطعمة النادرة والمتنوّعة التي تعجّ بها موائد السلاطين، مستلّةً من أفواه المساكين، وأنتَ بين هذا وذاك توزّع العطاء على المسلمين بالعدل والقسطاس المستقيم، فلا تنال من بيت المال إلّا كأحدهم أو أقلّ، وتكنس بيت المال وتصلّي فيه ركعتين، ونحن أصحابكَ وموالوكَ على ذلك من الشاهدين، وكفى بالله شهيدًا. بالأمس عاتبوكَ أنّكَ تقسو على نفسكَ بهذا الزهد، وبهذه المحاسبة العسيرة، فأجبتهم: "أوَ أبيتُ مبطانًا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟! أأقنع من نفسي بأن يُقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون لهم أسوةٌ في جشوبة العيش؟!(3) مولاي، لا يستطيع أحد ما تستطيعه، ويكفينا منكَ حُسن الصحبة والوفاء، وتقوى الله في القول والعمل، وهل يستطيع مَن تظلّل بظلّكَ وتفيّأ بفيئكَ إلّا ذاك؟! ولكنّ عدوّ الله يستبيح بلاد الله، وأنتَ تحثّ الناس على مقارعة أهل الباطل، فلا يلبّون. أمّا نحن، أصحابكَ والمخلصون لكَ فقلّة؛ سيوفنا في أغمادها تتململ لتُسلّ في وجه عدوّ الله وعدوّكَ، لكن كلمتنا شتّى، بل هي كلمة هؤلاء المنافقين الذين لا يعرفون قدر إمامهم، ويغمضون عيونهم عن شعاعكَ الباهر. ومرّةً أخرى تدعوهم إلى لقاء القاسطين، معاوية وأصحابه، فيتعلّلون ويتذرّعون بكلّ الوسائل، ويعصونكَ! مولاي، لا ملامة إن دعوتَ بمثل ذاك الدعاء، فلقد مرّ عليكَ من صنوف البلاء ما لا يحتمله بشر، لكنّي طامع في التزوّد من معينكَ، وما لي على فراقكَ صبر، فأنا منكَ كالقشرة من الجذع، وكالعشق من القلب، فبدونكَ لا وجود لي ولا حياة. مولاي، أفلا ترحم حالي؟ فلقد والله أثرتَ بلبالي، وها أنا ذا أطوف بمنازل أولادكَ أرصد طيفكَ فيها، بالأمس كنتَ تفطر في بيت ابنتكَ العقيلة زينب، زوج عبد الله بن جعفر، وقبله كنتَ في بيت ولدكَ الحسين، وقبلهما في بيت الحسن، واليوم، أراكَ قد قصدتَ بيت أمّ كلثوم، صغرى بنات الزهراء (عليها السلام)، وإنّي لأنتظر خروجكَ انتظار الحنين إلى الدمعة الساكبة. لقد طال بكَ المكوث، وأراني سأسبقكَ إلى المسجد، عساي أطفئ ببضع ركعات أؤدّيها لهيب قلقي، وما أراكَ إلّا مبادرًا قبيل الفجر، تسبقه لتصلّي نافلتكَ، ثم تؤذّن في الناس بخير العمل، ولستُ أدري مَن ذا الذي سيجيبكَ؟! فلقد قلّ في هذا الزمان العاملون. صيحات الإوزّ تستوقف أذني قبل أن أغادر، يتبعها صوتكَ الحزين في بحّةٍ دافئة: "صوائح تتبعها نوائح"(4). قلبي يقفز إليكَ، وسمعي ينصبّ عليكَ، ولا أكاد ألتقط أنفاسي حتى يصلني صوتكَ مجدّدًا، نافذًا فيّ كالسهم من الصدر إلى الظهر: اشددْ حيازيمكَ للموت فإنّ الموت لاقيكا ولا تجزع من الموت إذا حلّ بناديكا كما أضحككَ الدهر كذاك الدهر يبكيكا تغلبني الدموع وأنا أصغي، مولاي ينعى إلينا نفسه، فواغوثاه من يوم لستَ فيه يا أبا الحسن! خطواتكَ تكرّ متعجّلةً متباطئةً نحو المسجد، محرابكَ يحتضن سجودكَ وزفراتكَ، أمّا أنا، فمَن يحتضن زفراتي؟! يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ومن الحقّ، حينما ينطلق صوتكَ الملكوتيّ يشقّ أجواز الفضاء ليصل إلى كلّ قلب، فيتدفّق الخير من بعض تلك القلوب مختلطًا بماء وضوئه، ويقسو شغاف بعضها ويجفّ ماء الوفاء فيه، أتهيّأ لأقتدي بصلاتكَ، وآخرون. سكون عجيب يجتاح المكان، تستوي الصفوف خلفكَ وينطلق صوتكَ الملكوتي من جديد معلنًا التكبير، تتكسّر أصنام الكفر فوق كعبة الخليل، وينثال الحمد من بين شفتيكَ رُطَبًا جنيًّا، فيرتشفه الكيان، ثم ينسكب التوحيد في سورة، فتتوحّد بكَ الأرواح، تركع أدبًا فنركع خلفكَ، وتسبّح العظيم فتعظم في قلبي أكثر، وتسجد قربًا لتسبّح الأعلى فتعلو وتعلو. وفجأة، تتزلزل أركان المسجد، والكوفة، والدنيا، وقلوبنا الوالهة، وينطلق صوتكَ من جديد، تسبيحًا آخر أُضيف إلى سجود المتّقين والشهداء، لا كالأصوات، بل كتسابيح النسور: فزتُ وربّ الكعبة!(5) صوت آخر كنفخ الصور، يصدح ملء السماء والأرض يخترق القلوب والصدور: تزلزلت والله أركان الهدى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتل ابن عمّ المصطفى...(6). تنقطع منّا الصلاة، وتهبّ أمواج البشر تتدافع.. ـ لقد ضربه اللعين، دونكم الرجل، أمسكوه.. وأنكفئ نحوكَ، دموعي تحجب الرؤية، فلا أدري أهي أشدّ انسكابًا أم دمكَ المهدور؟ مولاي، لقد خُضّبت هذه من هذه حقًّا، فزتَ وربّ الكعبة، لكن مَن لأيتامكَ من بعدكَ يا أبا المؤمنين؟ مولاي، لقد كان الله في صدركَ عظيمًا، ولقد كنتَ بذات الله عليمًا، فالسلام عليكَ يوم وُلدتَ في بيته كريمًا، وتربّيتَ في حجر نبيّه، ودافعتَ عن دينه، وبذلتَ فيه غاية المجهود، والسلام عليكَ يوم ضُربتَ في محرابكَ ساجدًا، فلقد أولدكَ في خير المواضع، وقبضكَ إليه في خير المواضع، والسلام عليكَ يوم تُبعث لتسقي بالكوثر المرصود كلّ مَن والاكَ بحقّ، قولًا وفعلًا، ونِعم أجر العاملين. ................................. (1) بحار الأنوار: ج ٣٤، ص١٩. (2) بحار الأنوار : ج ٤٢، ص ١٩٦ (3)نهج البلاغة: ج3، ص72. (4) بحار الأنوار: ج ٤٢، ص ٢٤٦. (5) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج ١٤، ص ٢٦٤ (6) بحار الأنوار: ج ٤٢، ص ٢٨٢.