(...بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)(1)
عندما يطغى حبّ السلطة والجاه في نفس الإنسان فيجرّده من إنسانيته، ويجعله وحشًا بصورة بشر منتزعًا منه كلّ القيم والمبادئ، فسيصدر عنه الظلم والتعدّي وتجاوز حدود الله تعالى، وقد طغى بنو العبّاس وجاروا على أشرف الخلق، عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يبقَ فعل سيّئ لم يفعلوه، حتى زادوا على بني أمية بمكرهم وظلمهم، فكانوا يظهرون للناس بأنّهم محبّون لعترة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأوهموهم بأنّ لهم صلة قرابة معهم، وأنّهم يميلون إليهم، بينما في نفوسهم لا يوجد إلّا الغلّ والحسد تجاههم. استغلّوا صراعهم مع بني أمية من أجل السلطة بإظهار أنّهم مع آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وعادوا آل أمية، والواقع أنّهم يتصارعون من أجل سلطة أخذت بمجامع عقولهم وقلوبهم. ثم عاثوا فسادًا، فقتلوا وعذّبوا وسجنوا، حتى ضجّ العلويون وبدأت النزاعات، وضجّ الناس فخافوا من غضب العلويين وقيام الناس معهم. فحاك المأمون خططه، ومن أجل أن يكسب رضا الناس ويدير الوضع، قام بعرض ولاية العهد على الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام)، مُريدًا بذلك التضييق على الإمام أكثر، وخداع الناس بأنّ الإمام راضٍ عن الحكم وأنّه مشارك معهم. لكن الإمام الرضا (عليه السلام) لم يرضَ بولاية العهد ورفضها، فقام المأمون بتهديده بالقتل إذا لم يوافق، فاشترط الإمام (عليه السلام) شرطًا لموافقته وهو أن لا يشترك في الحكم أبدًا ولا يكن له يد به، فوافق المأمون، فعن محمّد بن عرفة وصالح بن سعيد الكاتب الراشدي أنّهما قالا: (...فلمّا وافى ـ أي الرضا عليه السلام ـ مرو، عرض عليه الإمرة والخلافة، فأبى الرضا (عليه السلام) ذلك، وجرت في هذا مخاطبات كثيرة، وبقوا في ذلك نحوًا من شهرين، كلّ ذلك يأبى أبو الحسن الرضا (عليه السلام) أن يقبل ما يُعرض عليه، فلمّا كثر الكلام والخطاب في هذا، قال المأمون: فولاية العهد، فأجابه إلى ذلك، وقال له: "على شروط أسألها"، فقال المأمون: سل ما شئتَ، قالوا: فكتب الرضا (عليه السلام): "إنّي أدخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى، ولا أقضي ولا أغيّر شيئًا ممّا هو قائم، وتعفيني من ذلك كلّه"، فأجابه المأمون إلى ذلك وقبلها على هذه الشروط).(2) ولكنّ المأمون لم يهدأ، وظلّ يؤرّقه التفاف الناس حول الإمام الرضا (عليه السلام) حتى دسّ له السمّ وقتله خوفًا على عرشه، وخوفًا من أن تُكشف أعماله ونيّته السيّئة، وكيف لا يفعل ذلك مَن يقتل أخاه من أجل الحكم الزائل! هكذا هو حبّ الجاه والتسلّط، يصل بالإنسان إلى أسفل السافلين، وينتزع منه كلّ إنسانية، فيكون كالأنعام، بل أضلّ سبيلًا. ................................ (1) الفرقان:44. (2)عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2، ص 161.