رِحْلَةٌ إِلى السَّماءِ
قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1). خصّ الله تعالى أنبياءه بالمعجزات، ولكلّ واحد منهم معجزة امتاز بها عن نظيره، ومن معاجز نبيّنا الأعظم (صلّى الله عليه وآله) من بعد القرآن الكريم أن أُسريَ به إلى المسجد الأقصى، ثمّ عُرج به إلى السماء في ليلة مباركة من ليالي شهر رمضان. رحلة سماوية أُذن فيها للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) أن يرقى إلى أسمى درجات العُلا: (ثمَّ دَنى فَتدلّى* فكَانَ قابَ قَوسينِ أو أدنَى)(النجم:8ـ9)؛ ليرى ما لم يشهده أحد من قبله ولا من بعده من آيات ربّه الكبرى عن طريق معجزة إلهية متكاملة خُصِّصت لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) دون غيره من الأنبياء وسائر البشر. رحلة عظيمة ابتدأت من الصخرة المشرّفة إلى عنان العرش حيث المنتهى، مُنتهى الخَلْق، وأيّ منزلة أعظم منها؟ تجلّي الروح في حضرة الخالق في رحلة لا سابق لها ولا لاحق، إذ ارتقى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعظم منزلة عند إله العالمين، فبلغ العرش العظيم. الإسراء بالروح والجسد من بقعة مباركة إلى أخرى، حيث سِير بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) على خُطى الأنبياء السالفين؛ ليؤدّي الصلاة في كلّ محراب، وليرى موطئ كلّ نبيّ، ويشهد المسجد الأقصى بعينه المباركة، فما زاغ البصر وما طغى. أخبرنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكلّ ما حدث في تلك الليلة، من مصاحبة جبرائيل (عليه السلام) له على البراق، إلى كيفية الصعود إلى السماوات، ولقاء الأنبياء عند كلّ سماء، ولقائه بالملائكة، ورؤية الجنّة والنار، وكلّ ما رآه أو سمعه هناك. التفاصيل التي تصعق الأذهان لعظمتها تجعلها مستحيلة التصديق لمَن لا يؤمن بعظمة الخالق وقدرته، وهذا بحدّ ذاته اختبار للإيمان الحقيقي الذي يكشف الله به زيف مَن يدّعي الإيمان ونصرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله). الحادثة بما تنطوي عليه من كيفيات إعجازية وخوارق إلهية، لا يقوى العقل البشري على إدراكها، فتجعل منها الحجّة الأمثل في اختبار المخلوقين ومدى إخلاصهم لله ورسوله، فعن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): لأيّ علّة عرج الله بنبيّه (صلّى الله عليه وآله) إلى السماء، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حُجب النور، وخاطبه وناجاه هناك، والله لا يُوصف بمكان؟ فقال (عليه السلام): "إنّ الله تبارك وتعالى لا يُوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنّه (عزّ وجلّ) أراد أن يُشرّف به ملائكته وسكّان سماواته، ويكرمهم بمشاهدته، ويُريه عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقول المشبِّهون، سبحان الله وتعالى عمّا يشركون"(1). الحادثة التي رسمت أبعاد الإسلام وأصوله، وحدّدت أهمّ معالمه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "عرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مائة وعشرين مرّة، ما من مرّة إلّا وقد أوصى الله (عزّ وجلّ) فيها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالولاية لعليّ والأئمة (عليهم السلام) أكثر ممّا أوصاه بالفرائض"(2). ............................................. (1) علل الشرائع: ج1، ص١٢٦. (2) الخصال: ص601.