رياض الزهراء العدد 192 سيدة المواقف
تَجلّي عُنصُرِ الاستِقامةِ فِي شخصِيَّةِ السَّيِّدةِ خَديجَةَ (عليها السلام)
قال الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ...) (هود:112). كانت ولاتزال المرأة تؤدّي دورًا كبيرًا في تكوين المنظومة المجتمعية في العالم، إذ تمثّل العامل الأساسي في استدامة الحياة وتطوّرها، فهي تحمل مسؤولية أهمّ عمليتين إنسانيتين حاصلتين في الكون، ألا وهما الإنجاب والتربية، وبعيدًا عنهما هناك مسؤوليات أخرى تقع على عاتقها تجاه الدين. فمثلما أنّ الرجل ملزم بتكاليف وواجبات تجاه الإسلام، فكذلك المرأة ملزمة بتكاليف معيّنة، وأيّ تسويف في واجب من الواجبات يُعدّ تقصيرًا ربّما تُحاسب عليه. ويا للأسف الشديد نجد بعض النساء يعتقدنَ بأنّ تكليف المرأة بعد الزواج يقتصر على الإنجاب والتربية فقط، ويخرج عن نطاق التوعية والمعرفة. وهذا التصوّر خاطئ؛ لأنّ الزواج لا يعطّل تكليف المرأة، وفكرة أن يحمل الرجل عنها التكليف فكرة خاطئة وغير واردة في الإسلام، بل يجب أن تتحمّل المرأة نفسها المسؤولية تجاه الدين، وتعمل وَفقًا لما أوجب الله عليها من التزامات. ولعلّ من أهمّ الواجبات التي تقع على عاتق الناس جميعًا رجالًا ونساءً هو تبيين الحقّ، والتصدّي للباطل عن طريق الوقوف في وجه الهجمات المختلفة التي تستهدف الدين الإسلامي وأتباعه، وتحاول تشويه المعتقدات السامية في المجتمع، وتدفعه إلى الضلال والانحراف. فنشاهد العدوّ كيف يعمل وَفق خطّة مدروسة لضرب القيم الإسلامية، وإغراء الفئات المجتمعية بعناصر جذب مضلّة، ظاهرها الصلاح، وباطنها الفساد، ولأنّ المرأة تمثّل المكوّن المهمّ في المجتمعات، فأغلب الضربات الفكرية المغرضة تكون موجّهة صوبها؛ لأنّ ضرب عصفورين بحجر واحد أسهل من ضربهما بحجرين، وأنّ هدم شخصية المرأة المسلمة يعني هدم الجيل القادم؛ لكونها المسؤولة عن تربية أطفال اليوم. فالعامل الأساسي الذي يحمي المرأة من كلّ الهجمات المُقامة ضدّها هو الاستقامة، وتسبق الاستقامة المعرفة الحقّة بالدين، ثم الثبات والاستقامة. ومن أبرز النماذج التي تركت بصمة كبيرة في تاريخ المرأة المسلمة هي السيّدة خديجة الكبرى (عليها السلام)، فقد كانت سيرتها ونهج حياتها مضرب المثل في الثبات والاستقامة، وكانت خير مَن جسّد استقامة المرأة المؤمنة على مرّ التاريخ، فالمعرفة الحقّة وتحمّل المسؤولية تجاه الدين هو الذي جعلها تفدي الإسلام بنفسها ومالها، واستشعارها للتكليف هو الذي جعلها تقف جنبًا إلى جنب الرسول (صلّى الله عليه وآله) في الحرب قبل السِلم. فموقفها لم يكن موقف زوجة مع زوجها، إنّما هو موقف المرأة المؤمنة مع نبيّ زمانها، وهذا الأمر الذي جعلها خالدة في أسطر التاريخ إلى يومنا هذا. فعلى الرغم من المضايقات والهجمات التي تعرّض لها الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، إلّا أنّها بقيت صامدة، ولم ترتدّ عن دينها لحظةً واحدةً، وكانت من أوائل الذين أعلنوا إسلامهم، وفعلت ما لم يستطع الرجال فعله؛ لأنّها كانت تمتلك المعرفة الحقّة بدينها، فتحمّلت المسؤولية، واستقامت بمواقفها وعقيدتها، ودافعت عنه إلى الرمق الأخير فيها، وكانت بدورها العظيم الحصن الحصين للدين في الزمن العصيب، وعلى الرغم من أنّها كانت نِعم الزوجة ونِعم الأمّ، إلّا أنّ هذا الأمر لم يمنعها عن أداء واجبها الشرعي، وهذا دليل واضح على أنّ الزواج والإنجاب لا يوقفان تكليف المرأة، بل يضاعفانه، فبمجرّد الارتباط والإنجاب سيزداد تكليف المرأة تلقائيًا؛ لأنّها ستكون مسؤولة عن السلامة الفكرية لعائلتها، وستحاول حمايتهم من الأفكار الباطلة والأساليب الخبيئة التي يحاول العدوّ استخدامها في دسّ المعتقدات الضالّة عن طريق الأفلام والمجلات والكتب والبرامج، وملء مواقع الإنترنت بالأفكار السامّة والمبطّنة التي تقود الشباب إلى الضلال بذريعة التطوّر والعصرنة، ولن تضمن المرأة حماية عائلتها إلّا عن طريق دفاعها عن الحقّ وبيان الفكر الإسلامي الأصيل، وفضح دسائس العدوّ الثقافية التي يحاول تنفيذها على الساحة الإعلامية تحت مسمّى التطوّر. إذًا لا يمكن تربية الأبناء وَفق المنهج السليم الذي يضمن عدم انحرافهم وسقوطهم في الهاوية إلّا بعد أن تعرف المرأة واجباتها، وتعرف الدين حقّ المعرفة، وتتّخذ من الاستقامة منهجًا لحياتها عبر الاقتداء بالشخصيات النسوية اللاتي جاهدنَ في سبيل الله وتركنَ أثرًا كبيرًا في مسيرة حياة المسلمين.