قَتلُ بَرَكَةِ شَهرِ رَمَضانَ!
هو ذاك الشريط الأصفر الذي يحدّد مسرح الجريمة؛ للوقوف على أسبابها عن طريق جمع الأدلّة وتحليلها، والوصول إلى الجاني، ومن ثمّ معاقبته تحقيقًا للعدالة، ولإصلاح ما فسد من سريرته. نحاول وضع شريط أصفر حول مسرح أيّ جريمة، سواء كانت مادّية أم معنوية؛ لحصر أسبابها، محاولين منع تكرارها عن طريق وضع حلول، وأفكار، ومقترحات لمحاربتها، وعدم تكرارها، والحفاظ على الأمن المجتمعي، والحفاظ على الروح من تلوّث فطرتها بنوازع إجرامية مكتسبة. في جلسة رمضانية انعقدت في بيت الجدّ دار نقاش عن كيفية قضاء اليوم، فاعترفت إحدى النساء وبفخر بأنّها تتابع (12) مسلسلًا تلفزيونيًا على مدار اليوم، علمًا أنّها موظّفة ومسؤولة عن بيت وزوج وأطفال، فيما قالت الأخرى إنّها تقضي وقتها في المطبخ لإعداد ما لذّ وطاب من الأطباق الرمضانية، بينما صرّحت الأخيرة أنّها تنام وأسرتها نهارًا كي لا يشعروا بالجوع والعطش، وبعد الإفطار يخرجون في أمسية رمضانية، إمّا في زيارة للأهل والأقارب، وإمّا إلى التنزّه أو التسوّق. أمّا الرجال فكانت إجاباتهم غالبًا هي العمل نهارًا والخروج ليلًا مع الأصدقاء إلى المقاهي حتى قُبيل السحور! إنّها جريمة معنوية من العيار الثقيل بحقّ الشهر الفضيل الذي قال عنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "...شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللهِ، أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ..."(1). ولنحصر شريطنا الأصفر في مسبّبات قتل بركة هذا الشهر العظيم، وتبديد ساعاته الثمينة، وأيامه ولياليه العظيمة في توافه الأمور. ولعلّ أبرز مسبّبات قتل روحانية هذا الشهر وبركته هو كثرة الطعام والشراب إلى حدّ الإسراف والتخمة، وغالبًا إلى حدّ الهوس في إعداد الأطباق الرمضانية والحلويات، ممّا حدا بالكثير من النساء إلى إعداد جداول خاصّة بالأطباق الرئيسة والثانوية، والحلويات والعصائر على مدار (30) يومًا! وكذلك التركيز على الدراما الرمضانية، بخاصّة ما يسمّى بالترفيهي، وما تشتمل عليه من محتويات لا نعلم لماذا تُعرض وقت الإفطار، إضافة إلى المفاهيم والمشاهد التي لا ترتقي إلى ذوق المشاهد الواعي في الأشهر العادية، فكيف بشهر الطاعة والغفران، فضلًا عن قصص الدراما الموجّهة لتغيير الحقائق والثوابت وقلبها، ومحاولة تثبيت المعوجّ منها في المجتمعات بوصفها خطوة مهمّة من خطوات الحرب الباردة في إفساد مجتمعاتنا الإسلامية. ومن المسبّبات الأخرى لقتل روحانية هذا الشهر الكريم الذهاب إلى الأسواق والمقاهي مع ضوضائها الصاخبة، كأنّها لازمة من لوازم شهر رمضان. مثلما أنّ بعض الألعاب وما فيها من منافسات ودوريات لها طقوس خاصّة لدى بعضهم، حتى أنّها لا تُؤدّى في غيره من الشهور، فوظيفة الإعلام اليوم بقنواته العديدة هي ترسيخ الأفكار الهدّامة في نفوس النشء الجديد وعقولهم بصورة حضارية، وتحت مسمّيات أخرى ليسلخ منهم عقيدتهم وانتماءهم وهويتهم الإسلامية من دون أن يشعروا. نحن لا نقول بعدم الترفيه للصائم، ولا أن يحرم نفسه من الطعام والشراب، أو صِلة الرحم والتنزّه، لكن الاعتدال وعدم التبذير والإسراف هو الأفضل في كلّ حين. على الإنسان المؤمن أن يحصّن نفسه وعائلته ومجتمعه من السموم القاتلة بالوعي والتوجيه السليم، كأن تكون منافساتنا الرمضانية في حفظ القرآن الكريم وتدبّره، أليس هو الشهر الذي أُنزل فيه القرآن؟ أو حفظ دعاء الافتتاح وأدعية السحر أو شرحها، أو زيادة المعلومات الإسلامية، وغيرها من الأنشطة، أو توظيف الإعلام الرسالي لبثّ المفاهيم الصحيحة في المجتمع، ودوره في حفظ الفرد والمجتمع ووقايته من تأثير تلك السموم. وباختصار شديد، فإنّ دور الفرد في شهر رمضان يتلخّص فيما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): "...اعلم يرحمكَ الله أنّ الصوم حجاب ضربه الله (عزّ وجلّ) على الألسن والأسماع والأبصار وسائر الجوارح، لما له في عادة من سرّه، وطهارة تلك الحقيقة حتى يستر به من النار، وقد جعل الله على كلّ جارحة حقًّا للصيام، فمَن أدّى حقّها كان صائمًا، ومَن ترك شيئًا منها نقص من فضل صومه بحسب ما ترك منها"(٢). ................................................ (1) روضة المتّقين: ج3، ص 277. (2) بحار الأنوار: ج٩٣، ص٢٩١.