رياض الزهراء العدد 192 شخصيات ملهمة
رَائِدَةُ الكَلِمِ
إنّ ما تكلّ عنه ألسن فحول الفصحاء، وتقف دونه غاية الأفكار وفطاحل البلغاء، نطقت به سيّدة البلاغة والفصاحة فاطمة الزهراء (عليها السلام). خطبة ارتجالية، منظّمة، منسّقة، بعيدة عن الاضطراب، منزّهة عن المغالطة، يُعدّ كلامها (سلام الله عليها) مظهرًا وتجلّيًا لعظمتها وشخصيتها، ومكانتها السامية، ألقت خطبتها في مسجد أبيها (صلّى الله عليه وآله) الذي يمثّل المركز الإسلامي الرئيس آنذاك، لتلقي الحجّة على غاصبي حقّها، وكان اختيارها للمكان والزمان في منتهى الدقّة، فخرجت (سلام الله عليها) في جماعة من النساء، في تظاهرة نسوية معارضة للانقلاب على الأعقاب، ولسياسة الاجتهاد مقابل النصّ، فالأمر بتدبير مولاتنا الزهراء (عليها السلام) كان يتطلّب مقدّمات لخطبة ناجعة كهذه، مسلّحة بالحجّة الدامغة، والبرهان القاطع، والدليل الواضح المقنع، فقد نطقت ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بخطبة معجزة حيّرت الألباب في معانيها، والأفهام في إدراكها؛ لأنّها آية الله الباهرة في حجّتها، وآية في فصاحتها وبلاغتها وحلاوة بيانها، وقوة حجّتها، وعذوبة منطقها، فضلًا عن أنواع الاستعارة والكناية التي استخدمتها، والتركيز على الهدف، فلا يستطيع القلم استيعاب الوصف حقيقة، بل لابدّ من أن نقرأ ونبحث لنصل إلى عمق معاني كلماتها (سلام الله عليها)، منها قولها (سلام الله عليها): "...وأشهد أنّ أبي محمّدًا عبده ورسوله..." هنا أقرّت السيّدة الزهراء (عليها السلام) بالشهادتين، بعد أن شرحت كلامها عن الأصل الأول وهو التوحيد، انتقلت إلى الأصل الثاني وهو النبوّة، فاعترفت لأبيها بالعبودية الكاملة لله تبارك وتعالى، ثم بالرسالة له، أي أنّه رسول من الله تعالى، فإذا سألنا هل يجب الاعتقاد بنبوّة النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله)؟ فالجواب: أجل، يجب الاعتقاد بنبوّته ورسالته، فإنّ مَن لا يعتقد بنبوّته كافر، ثم إنّ هذه النبوّة تعود بالفائدة على الإنسان نفسه لقوله تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ (سبأ:47)، وهذا الاعتقاد ما عُقد عليه القلب، فلا يكفي مجرّد العلم بذلك. وقال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيقَنَتهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا (النمل:14)، وهنا نسأل هل ينبغي التصريح بالنَسَب؟ فالجواب: أجل، ينبغي التصريح به والتأكيد عليه وإظهاره فيما إذا كان مؤيّدًا للكلام، مثلما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا جمال كالحسب"(1)، فتصريحها بالنَسَب هنا يوجب التذكير بكلمات النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عن حبيبته وبضعته، فيكون ذلك أدعى إلى قبول الحقّ منها. وقد رُوي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "فاطمة بضعة منّي وأنا منها، فمَن آذاها فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله"(2)، ثم لتهيّج العواطف وتحرّكها لتُقبل كلماتها (عليها السلام) والتوجّه إليها بكلّ شعورهم. فحريّ بالمرأة المؤمنة أن تتسلّح بسلاح المعرفة والمنطق، وتكون مستعدّة لمواجهة التيارات الخطرة التي يتعرّض لها المسلمون من أهل الانحراف والتشكيك، وتقتدي بمَثَلها الأعلى السيّدة الزهراء (عليها السلام) في سيرتها كلّها، من منطق وحجاب، وتربية الأولاد، ومجابهة الظالمين بالمنطق القوي الجريء المدعم بالحجّة والدليل، ودفاعها عن إمام زمانها. فلا يليق بمجتمعنا الإسلامي أن تبقى نساؤه متقوقعات في نطاق ضيّق، يعشنَ على هامش الحياة، بل تقع عليهنَّ مسؤولية كبرى في بناء جيل نستعدّ به ليوم الظهور المبارك. ........................................................ 1- غرر الحكم ودرر الكلم: ج ٩٣٩٥، ص٤٠٩. 2- بحار الأنوار: ج43، ص ٢٠٢.