قَد وُلِدَ الرَّبِيع

بتصرف من كتاب: ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد للمؤلف كمال السيّد
عدد المشاهدات : 163

رأى عبد المطّلب أن يزوّج ابنه عبد الله آخر الأبناء بعد أن بلغ من العمر أربعة وعشرين عاماً، واقترن الشاب الذي افتداه أبوه من الإبل بفتاة اسمها (آمنة) كريمة المَحتِد، فأبوها سيّد بني زهرة. وأقام العروسان عند أهل العروس استجابةً لعادة عربيّة حينما يتمّ الزواج في بيت العروس، ولمّا مضت ثلاثة أيام انتقلت الأسرة الصغيرة إلى منازل بني عبد المطّلب. وعندما انتهت الاستعدادات لرحلة قريش في الصيف غادر عبد الله مكّة نحو الشام، إلى مدينة غزّة. وقد استغرقت الرحلة شهوراً ليعود بعدها إلى أرض الحجاز، ويشاء القدر أن يتوقّف عند أخواله في مدينة يثرب، ولم يكن يدري أن هذه المحطّة ستغدو مثواه الأخير. وفُجِعت العروس بوفاة زوجها وكانت حاملاً، كما فُجع أبوه عبد المطّلب ومكّة كلّها بهذا النبأ، وتأثر عبد المطّلب لرحيل ابنه السريع، وهو الذي افتداه فداءً لم تسمع به العرب من قبل. وتمرّ الشهور وتحين ساعة المخاض ليولد حفيد عبد المطّلب؛ كان سيّد مكّة في رحاب الكعبة عندما بُشِّر بميلاد الحفيد. وفي تلك اللحظة تفجرت ينابيع الحبّ في قلب الجدّ. احتضن الشيخ حفيده وهتف: - سمّيتُه محمداً. وانتقل الاسم العجيب في منازل مكّة، اسم جميل حلو، يشبه نغمة حالمة.. كيف ومض هذا الاسم في ذهن سيّد مكّة، ويتساءل بعضهم: - وأسماء الآباء.. والأجداد.. لماذا محمّد؟! تمتم الشيخ: - ليكون محموداً في السماء وفي الأرض. لقد هُزمت عاصفة الشتاء، ووُلد الربيع في موسم الربيع. كان (صلى الله عليه وآله) خفيفاً في وزنه، نحيفاً في بدنه، صبوراً في مواجهة المشاق، قنوعاً في طعامه، في فكره سرعة وبديهة، وفطنة وذكاء وخيال مشتعل، وكبرياء وعزّة تتألق في عينيه السوداوَين، وشاعرية مُرهفة، جعلته شغوفاً بالحِكمة والأمثال. لم يكن فاحش الطول، كان رَبعة وقد جُعل الخير كلّه في الربعة، أمّا بشرته فكان أزهر لونها، أي بيضاء ناصعة، لا تشوبها صُفرة ولا حمرة. رَجِلُ الشَّعر لا مسترسل ولا جَعد، يشبه تموّجات الصحراء، وكان يبلغ شحمةَ أُذنيه، وقد بدت سوالفه متلألئة. واسع الجبين، بين حاجبَيه فاصل لطيف، وعيناه نجلاوان، فإذا ابتسم افترّ عن لآلئ منضودة. فإذا مشى بدا كزورق ينساب في بحيرة هادئة. نشأ محمّد (صلى الله عليه وآله) في أحضان جدّه عبد المطلب، فكان شغله الشاغل، كأنّ الصبي ورث الحب العظيم عن أبيه الراحل، ورأى سيّد مكّة أن ينشأ حفيده في الصحراء والبوادي، وجاءت حليمة تبحث عن وليد، فإذا هي ترى محمداً، ولعلّها إرادة السماء أن يتفجّر نبع الحب في قلب (السعديّة)؛ لتحتضن الوليد اليتيم، وتنطلق به إلى البادية. ومرّ عامان تدفّق فيهما الخير في تلك البقعة من دُنيا الله (عزّ وجل)، فإذا ذلك الصبي يُمن وبَرَكة، وتشعر حليمة بالحزن، فلقد آن للصبيّ أن يعود إلى أمّه، وما يزال ينبوع الحب يتدفّق في قلبها. وصادف أن اجتاح الوباء مكّة، فخشي عبد المطّلب على حفيده عاصفات الدهر، واستجابت آمنة لرغبة الجدّ، وهي ترى عينَي حليمة تبرقان فرحةً بمحمّد (صلى الله عليه وآله). ويعود الصبيّ إلى البادية تملأ عينيه الصحارى، وتبهره سماؤها الزاخرة بالنجوم، وتشعر حليمة بأنّ الصبي قد أضحى جزءاً من كيانها، حتّى جعلها تخشى عليه عوادي الزمن، ولم تنسَ أن تضع في جيده قلادة. وتساءل الصبي عن سرّ القلادة، فقالت: - إنّها تحميك من الشرور. ويخلع محمّد القلادة قائلاً: - هناك يا أمي مَن يرعاني ويحميني من الشرور.