رياض الزهراء العدد 192 ألم الجراح
شَهْقَاتُ الوَجَعِ
أخبرنا الزمان قبل أن يغادر صوته.. ولم يُسمع له من فرط الألم حسّ ولا شعور.. بأنّ لحظات السعادة في مدينة الحبيب مؤجّلة.. فأجدب الأمل في الفؤاد بأن لا مفرّ من ثقل السنين الملقى على كاهلها.. ولن تُزاح بقايا الهموم التي تكاد لكثرة تراكماتها أن تخفي لونها الأصيل.. فماتت بذور الأمل في سامرّاء.. وتدلّت من عناقيدها الذابلة أغصان جفّت من ألم الحنين، فلا مطر يرويها.. وذهبت خارج الألوان، وزاد الدمع مرارةً بين أفانين أوجاعها.. واستوحشت نجوم السماء في لياليها.. ليعلو صدى النحيب من كهف الذكريات.. مضى بشغاف الصوت بين أنّات العبرات بنكهة العتاب.. قد دوّى في الأسماع.. يحكي ألم جرحٍ نازفٍ فطر هامة الحقّ المبين.. فسالت منه دماء النور الذي أخاف كلّ ظلام.. فتصيّد الحقد الأزلي بخيوطه السوداء الحقّ غدرًا.. لتشهد الأرض أبشع الجرائم التي حُبكت ملحمتها بالإثم والدم.. في لحظة سجود وتقرّب إلى الله زعزعت الكون بالحزن.. فقد ارتشف وصيّ الحبيب الوعد من كأس الانتظار الذي ذابت فيه أحلام اللقاء.. عندما قام للتكبير فجرًا ولبّى مشيئة الله.. وهو في أفراح الصلاة، ورجاء السجود تحت طاقة المحراب.. فتح الإمام عينيه إلى السماء، فتحضّر طيفه المقدّس ليعتق أنفاسه عندما تنهّد بأضلعه المرهفة، فكانت صيحة الأنين ترانيم تمتمت بنداء السماء: (فُزتُ وربّ الكعبة)(1). فجأة أصبح الكون في سكات.. لا يُسمع منه إلّا أنفاس تلاحقه مهابة الوداع.. فها هو قلب العالم، وباب مدينة علم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مسجّىً في محرابه.. تنتفض دماؤه على قيد مشكاة.. الراضي بطعم الاستشهاد.. روحه آنست المغيب.. تستعجل خطواته الرحيل إلى بهجات الجنان.. إنّها ساعات ويكون عليّ في جوار نبيّنا العظيم (صلّى الله عليه وآله).. غابت شمس الأمل وحلّ التَوهان بكلّ عتمته في القلوب.. وأشباح الأوهام راحت تعسكر في ليالي الأسى.. وهبطت صاعقة الوحشة على كلّ دهاليز مدينتي.. لتضرب ذكرى الرحيل حصن صمودها وأضعف بنيانها.. وترسم لوحة ألم متجدّدة تناغي أوجاع قوافي أنينها.. مواسيةً محارم الكعبة في وليدها، ومدارج الكوفة في أميرها.. ولتبقى ذكراه خالدة في ضمير الزمان.. فجرح عليّ جرح سامرّاء النازف.. ........................................................... (1)الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج ١٤ - ص ٢٦٤