مادة السير والسلوك في القرآن الكريمِ

نرجس مهدي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 717

السلوك في لغة العرب يعني الحركة، والسير على طريق محدّد لنقطة وهدف معيَّن، واسم الفاعل من هذه المادّة هو السالك، وعند تتبّع معنى هذه المادّة في الآيات الشريفة نجد أنّها استُعملت في محاور ثلاثة وَفق الاستقراء التامّ للآيات الشريفة، وهذه المحاور هي كالآتي: أولًا: السلوك بمعنى الحركة: والحركة تنقسم إلى قسمين: حركة مادّية، كحركة الماء في السواقي، كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْض... ) (الزمر:٢١)، وحركة الأرجل على الأرض في أثناء مسيرها: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) (نوح:١٩-٢٠). وحركة معنوية، كخروج الإنسان من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته، مثلما جاء في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): "مَن أراد عزًّا بلا عشيرة، وهيبةً من غير سلطان، وغنىً من غير مال، وطاعةً من غير بذل، فليتحوّل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته" (١)، والتحرّك والابتعاد عن الضلال والاتجاه إلى الهدى، والابتعاد عن الباطل إلى الحقّ، وفي كلا الحركتين نجد الطريق محدّدًا والغاية محدّدة، وهذا ما نعبّر عنه بالسلوك الصحيح. ثانيًا: السلوك بمعنى العقيدة: وهو سلوك معنوي مثلما جاء في قوله تعالى: كَذَلكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (الشعراء:٢٠٠) فالقرآن الكريم عند تحريكه باتجاه المجرمين والظلمة والكافرين، وتقريبه منهم، فهم لم يهتدوا بهداه ولم يقتبسوا من نوره، بل على العكس زادهم طغيانًا ونفورًا، ذلك لإغلاقهم جميع المنافذ التي يمكن أن يتسلّل إليهم نور الهداية عن طريقها: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ) (الأعراف:١٧٩) ثالثًا: السلوك بمعنى العمل: فمثلما قلنا: إنّ السلوك حركة، والعمل أحد مصاديقها، ومصداق هذا المحور يتجسد في قوله تعالى: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ...) (القصص:٣٢)، فالنبيّ موسى (عليه السلام) قام بتحريك يده، وقام بإدخالها في جيبه، ومن ثم أخرجها بيضاء سالمة - بياض سليم ليس كبياض البرص الدالّ على علّة بدنية - وبالمجمل، فإنّ هذه المحاور الثلاثة تشتمل على نمطين للسلوك، المادّي والمعنوي، وهذه الحركة تكون على خصائص معيّنة منها حركة ضرورية، ومن دونها يكون مصير الإنسان إلى النار: (يَأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ) (الانشقاق:٦) والكدح هو السير بمشقّة وتعب، وهذا السير والسلوك في سبيل الله محفوف بالمشقّة والمكاره، وقد عبّر عنه القرآن الكريم بأنّه طريق ذو شوكة، فقد ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال:" الجَنَّةُ مَحفُوفَةٌ بِالمَكَارِهِ وَالصَّبرِ، فَمَن صَبَرَ عَلَى المَكَارِهِ فِي الدُّنيَا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَجَهَنَّمُ مَحفُوفَةٌ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَمَن أَعطَى نَفسَهُ لَذَّتَهَا وَشَهوَتَهَا دَخَلَ النَّار"(2). ورحلة المسير إلى الله لا تكون إلّا بسلوك الصراط المستقيم، وهم محمّد وعترته الطاهرة (صلوات الله عليهم أجمعين). والشواهد القرآنية التي دعت إلى المسارعة في سلوك سبيل الحقّ كثيرة، نذكر منها: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) (آل عمران:١٣٣) (فَاستَبِقُوا الخَيْرَاتِ) (البقرة: ١٤٨). وهذا المسير الكادح للإنسان هو صورة من صور الابتلاء، ومثلما هو معلوم أنّ الابتلاء والتمحيص يكون مقدّمة الكمال الإنساني الذي أراده الله تعالى لعباده، فلم يخلقهم عبثًا إنّما خلقهم لغاية سامية تتجسّد بإيصالهم إلى الكمال على شتى الأصعدة، وهذا لا يتحقّق إلّا بالتمحيص والغربلة التي يكون الإنسان فيها بين صعود الدرجات أو نزول الدركات. ........................................... (ا) أمالي الطوسي: ص ٥٢٤، ص ٦٨. (٢) الكافي: ج2، ص89.