أُمنيّة وشهادة

زهراء سالم الجبوريّ/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 234

على الرغم من الأشجان التي طوت أيامنا كطيّ السجّل، إلّا أنّ الساعات كانت تمضغ فينا بالهموم خلف أسوارِ المنايا، فصوت الرصاصِ من خلف تلال تنظيم داعش يغمض الجفن الضحوك لمحافظات الغرب والشمال، ونحن نشاهد الأيام ترحل، والأقمار تخبو في عجالة، وسكانّها يفرّون على متن الآلام والجراح نازحين، تاركين خلفهم الديار النازفة، يعدّون خُطى المسافات الثقيلة في زحمة الموت، وهم يحسبون أنّهم يسقطون في تنهيدة الألم. في خضمّ هذه الأحداث كان ولدي قاسم ذو الـ(27) عامًا يراقب تلك التفاصيل بدقّة، حتى إنّي في بعض الأحيان عندما أغفل عنها في زحمة العمل يأتيني ويخبرني: أمّي حدث كذا، وجرى هذا، والأسف يغسل وجهه، والحزن يتربّع في أحضان قلبه الحنون على بلده الحبيب، أحاولُ أن أطمئنه، وألقي على مسامعه الأمل: لا تخف، لن يحصل شيئًا، لن يصلوا إلينا، إنّ الله مع العراق، وأبتر أيادي اليأس التي تطرق باب رأسه لتلقي عليه ماء الخذلان. هكذا كان ظلّ الظروف يلازمنا باستمرار أينما رحلنا، حتى حلّت ظهيرة يوم الـ(14) من شهر شعبان المعظّم، وفي يوم الجمعة تحديدًا، ونحن نترقّب خُطبة الجمعة كعادتنا، ونبحث في ثنايا الكلمات على عجل كوالدةٍ تبحث عن طفلها الذي أضاعتُه في مكان ما، لنوقظ أحلامنا؛ كي لا نُمسي على جانب مخاوفنا. ما أزال أنا وقاسم نقف في منتصف الحديث حتّى تُليت على مسامعنا سورة الدفاع الكفائي: (وفي الوقت الذي تؤكّد فيه المرجعية الدينية العليا دعمها وإسنادها لكم، فأنّها تحثّكم على التحلّي بالشجاعة، والبسالة، والثبات، والصبر... المطلوب أن يحثّ الأب ابنه، والأمّ ابنها، والزوجة زوجها على الصمود والثبات دفاعًا عن حُرمات هذا البلد ومواطنيه...)، عندها نظر لي قاسم نظرةَ استبشار، وقرأت عيناه حرفًا لم ينطق بعدُ. خرج قاسم من المنزل، ثمّ عاد وليل الغمّ يغطّي وجهه بالعتمة، وعيناه مكتظّة بالكلام، فالكتمان أشعل في قلبه وهج الحيرة، والبوح يتدلّى من سفح الصمت، يحاول أن يكتفي بالتكتّم، وبين خشية الإفصاح عن رغبته لي بالالتحاق خوف اصطدامه بأفق معارضتي، إلّا أنّه لم يحتمل كثيرًا، لقد كان القلق يسيّر تعابير وجهه، ففاتحني قائلًا: أمّي، أريد أن أخبركِ شيئًا. ـ أجبته: أخبرني، فمنذ ساعة وأنا أبصر القلق يشوّش عليكَ. ـ قاسم: أريد أن ألتحقَ مع مَن التحق. ـ قلتُ له وقلبي يضجّ فرحًا: باركَ الله فيكَ قاسم، التحق، أنا كنتُ أنتظركَ أن تفاتحني بهذا، أنا لا أقول لكَ إنّي لا أخشى عليكَ الأذى، لكنّ الدفاع عن المقدّسات واجب، وأريد أن أرفع رأسي بكَ أمام السيّدة الزهراء (عليها السلام). دخل قاسم غرفته وقد غفا الليل على متنه تلك الليلة، وعندما شقّ النهار طريق السماء، ذهب إلى ذلك المكان المخصّص لإدلاء المدافعين بأسمائهم للالتحاق، ثبّت معلوماته، وعاد إليّ والأفق يبتسم لابتسامته قائلًا: أمّي، أمّي بعد غدٍ سألتحق. تغيّرت ألوان الحياة في وجهي، فقلتُ: كيف؟ - مثلما أخبرتُكِ. - تصل بالسلامة إن شاء الله تعالى. - سلّمكِ الله تعالى. آنت ساعة التحاقه، فارتدى بدلة الدفاع، ورحل ليجوب المناطق الموبوءة؛ ليسكب على خلاياها الرصاص تعقيمًا، ويطهّرها من ذلك الوباء المسمّى (داعش). وضعتُ حواجز الصبر كي لا أجوب طرقات الجزع وأنا أودّعه قائلةً: قاسم، انتبه لنفسكَ، اتّصل بي عندما تصل. ـ قاسم: إن شاء الله، سأخبركِ بكلّ شيء. مضى، ومضى يوم على التحاقه، وأنا أحدّق في وجه الهاتف، أنتظر جرس الفرج، حتى رنّ عليّ قائلًا: أمّي، كيف حالكِ، فأنا بخير. - أنا بخير يا ولدي، انبته لنفسكَ، أريدكَ أن تكون بطلًا، أنا فخورة بكَ ولدي. - إن شاء الله تعالى سأرفع رأسكَ، وأبيّض وجهكِ أمام الزهراء (عليها السلام)، مع السلامة. - مع السلامة، تحفظكَ الزهراء (عليها السلام). وظلّت الأيام والأشهر تدور، وبدأ العراق يقف على قدميه بفضل الله، وبسواعد أبنائه بعد ما كادت سيوف الإرهاب أن تبترها، كانت رحلة دفاع عصيبة، رحل فيها الكثير، فقاسم كان يخفي عنّي خبر مَن يرحل من إخوانه خشية أن أُصاب بسهم الخوف، حتى جاءت صبيحة ذلك اليوم الذي حلّق فيه صوابي من جرف صبري، وجعلني أمشي في درب الفَقد. جاء اليوم الذي شاء الله تعالى أن يلتحق قاسم بركب الحسين (عليه السلام)، ويضع كفّه في كفّ القاسم (سلام الله عليه) الذي طالما شغله حبّه طوال سنين عمره، ويحقّق في هذه الرحلة أمنيّته، وهي القتل في سبيل الله تعالى بعد صراع حربي امتزج فيه الدم بالدخان، ورتّل فيها الرصاص سورة النصرِ، لقد أبلى بلاءً حسنًا، هكذا أخبرني رفيقه مصطفى، حتى هوى في ساحة الميدان كقمر مضرّج بالدماء، عندها صرخ مصطفى مناديًا: قاسم أُصيب برصاصة. هُرع إليه جارنا أبو عليّ الذي لم يكن يعلم بخبر التحاق ولدي؛ لأنّ قاسم أخفى عنه الأمر خشيةَ عدم موافقته وإرجاعه، وعندما سمع بذلك أُصيبَ قلبه معه، وعندما وصل إليه وقف على رأسهِ مندهشًا: قاسم! ضمّه إلى أحضانه والدموع تغسل شيبته، وأخذ يخاطبه: قاسم، ما الذي جاء بكَ؟ بماذا سأخبر والدتكَ؟ قال قاسم والابتسامة تلوح على ثغره الذي ارتوى من دماء الشهادة سلفًا: عمّي، لا تبكي، أمّي هي التي أرسلتني. ثمّ أفلت يده من يد عمّه أبي عليّ ليمسك يد القاسم في الجنان، ولتدوّن الملائكة اسمه في سجّل الشهداء.