"إنَّ شَفاعَتَنا لا تَنالُ مُستخِفًّا بِالصَّلاةِ"(1)
والتفّت العيون بالدموع وهي تنظر إليه... كان يجود بنفسه، ويتململ في غمرة احتضاره وهو يرمق ذوي رَحِمِهِ برحمته المعروفة، ويلقي عليهم كلماته التي لأجلها جمعهم عنده، وكانت آخر عهدٍ عهده إليهم، وآخر ثمرةٍ من جنى عمره المبارك، وهو التقيّ النقيّ الطاهر الصادق، شيخ الأئمة من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله). كانت دموعهم دموع أسفٍ على أفول نجمه الساطع، الذي شعشع في سماء المدينة والكوفة، والكون بأسره لخمسةٍ وستين عامًا، هي مدّة عمره الشريف، ولو كان ذاك الأفول لأمرٍ قد قُدّر لهان الأمر، ولكنّها آثار السمّ الذي سُقِيَه، وثمالة أحقاد المنصور العبّاسي عليه منذ سنين، قد اختتمها بذلك العنب المسموم الذي أطعمه إياه.. لقد اغتالت يد أعوان الشيطان إمام ذلك الزمان، مثلما اغتال أسلافُهُ أسلافَه، فقد ضاقت الدنيا بصدق حديثه وتقاه وورعه وصبره، وما عاد له بين أهلها مكان، فأحكم الظالم جوره، وجمع أمره، وسدّد إليه سهام بغيه، وسقاه من زعاف السلطان ما سقاه، فاغتال به الدين والإيمان والصلاة.. أمّا القاتل فيبكي المقتول، وقد فعلها من قبله يزيد حينما تظاهر بالأسف على قتل الحسين (عليه السلام)، وهو الذي أمر بقتله ولو كان معلّقًا بأستار الكعبة! هو غدر أهل الغدر، وصبر أهل الصبر، ولا يكون إلّا ما أراد الله من النصر، حتى وإن غاب نور البدر، فإنّ لله بدورًا سواطع تتوالى وتتعالى ما بين غروبٍ وفجر. شيخ الأئمة كان وصادقهم، وكلّهم صادقون، لكنّ لقب الصادق كان أشهر ألقابه، وبه سمّاه جدّه الإمام زين العابدين (عليه السلام) بقوله: - حدّثني أبي عن أبيه، أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: "إذا وُلد ابني جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فسمّوه الصادق..."(2). مولاي يا زين العباد! فالصادق الذي نصصتَ عليه وعلى لقبه الشريف في حديثكَ المنيف، لقد شرّفنا الله بولايته وولاية آبائه وأولاده، وبأن نكون من المنتسبين إليه في علمه وتقاه وورعه وجهاده، حتى غدونا به متميّزين عن سائر خلق الله وعباده، وإذا بنا ونحن الفرقة الناجية، نحمل اسمه في قلوبنا، وعقولنا، وفوق رؤوسنا، وعلى ألسنتنا، وفي نسمات أرواحنا، بل نتعطّر بطيب ثنائه، ونفتخر برقيّ سمائه، ذاك الصادق الذي لا نظير له في العباد غير المعصومين (عليهم السلام)، وكان له من عمرٍ زاد على أعمار غيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ببضع سنين، ما زاد في ارتشافنا من معين عطائه، ومع أنّ ما وصلنا منه لا يوازي قطرةً من بحره، إلّا أنّه طبق أجواز الفضاء بخيره، وحفظ الدين من ضلالة المعاندين والمنافقين والمخالفين، مثلما حفظه الله بآبائه الطاهرين، ولكنّه كان في زمنٍ أُتيح له أن يظهر بعض ما أخفوا، لانشغال أهل الحكم عنه حينًا بالتنازع على السلطان، فشمّر عن ساعد الشريعة وبيّن أحكامها الرفيعة، وأرسى أسس الدين وقواعده، وشاد حصونه المنيعة. مولاي يا زين العباد! لقد أحيى الله الدين بكم، وعلّمنا أنّه ما ضلّ مَن تمسّك بحبلكم، لكنّ الزمان الذي غدر بخيرتكم كانت له وقفات لا تُنسى عند بعضكم، بحكم ما جرى عليكم ولكم، فإذا بأبيكَ الحسين (عليه السلام) يحيي بدمه شريعة جدّكم، وإذا بحفيدكَ الصادق (عليه السلام) يحييها بكلِمِه، ثم هو ينضوي تحت جنح الشهادة مثلكم، فلا يسلم من يد المعتدين، لكن الله يشاء أن يكون هو الصادق ابن الصادقين، أبو الصادقين، الذي تتكنّى به الفئة الناجية المتمسّكة بحبلكم المتين، فإذا هم ينتصبون على قِمم الزمان، ويحملون لواء الحمد بانتظار صاحب الزمان، وقد وُسمت جباههم بكنية (الجعفريّون). .................................... (1)مَن لا يحضره الفقيه: ج1، ص٢٠٦. (2)بحار الأنوار: ج47، ص٩