رياض الزهراء العدد 193 ألم الجراح
قيود بقيعِ الغرقد
سامرّاء! اعذريني مدينة الحبيب إن كنتُ طرقتُ بابكِ هذه المرّة، وأيقظتُ أحزانكِ اللامتناهية.. اعذريني إن كنتُ سأروي على أعتاب العسكريين (عليهما السلام) ما سيفجع قلبيهما.. ففي لحظة لا تشبهها لحظة، كنتُ أتّكئ بيدي على الجدار لكي تسند جسدي المرتجف، وروحي التي فقدت الشعور بالزمان والمكان، وقد راحت العيون تتطلّع صوب البقيع باشتياق.. تحسب أنّها ستنعم برؤية الجنان، وتتبرّك أنفاسي المذنبة من شذى أضرحة الأحبّة (عليهم السلام).. فتنال من الطمأنينة ما اعتادت أن تناله من زيارة مراقد سائر الأئمة (عليهم السلام).. نقف تحت قباب قدسهم، نرفع أكفّنا نحو السماء حيث تتفتّح أبواب الرحمة على رؤوس الزائرين.. تأمّلتُ خطواتي، فأنّها إن لم تطف حول قبورهم، فإنّها ستكتفي بملامسة آثار أقدامهم التي حطّت على هذه البقعة المباركة.. أخذت يداي تستشعران ندى ثراهم، وتستنشق روحي عبير اللقاء، فتغوص نفسي في عمق الرؤيا؛ لتطوف حول ضريح أمّ البنين (عليها السلام).. فيقرع صوت جبريل الأمين (عليه السلام) بالتهليل، فتتغلغل في الوجدان، ويلهج اللسان: "السَّلَامُ عَلَيكُمْ أَئِمَّةَ الهُدَى، السَّلَامُ عَلَيكُمْ أَهلَ التَّقوَى، السَّلَامُ عَلَيكُمْ أَيُّهَا الحُجَجُ عَلَى أَهلِ الدُّنيا..."(1). ولكن ما نبّه حواسّي البكماء صوت أجشّ، صادر من غرابيب سود، تنهر كلّ مَن يقترب من جدار البقيع، ترمقنا بنظرة الحقد والاشمئزاز.. فتقف قوافل المحبّين ترمق البقيع بدموع صامتة، وقد ذاقت قلوبهم مرارة الغربة التي عاشها أئمتهم (عليهم السلام)، وما يزالون يعيشونها.. فحزّت قيودهم المعاصم، واعتصرت المحاجر والحناجر.. استمرّ صدى الألم يتردّد، ويعلو كلّ الآهات بلا منائر طوال سنين منذ أن هدموا تلك القبور الشريفة.. ويشهق في المدى نحيب يخترق الشغاف، نحيب يشهد وداع الأحبّة.. فتحوّلت لحظات الحنين إلى أنين لا ينتهي؛ لتظلّ تساؤلات في روض القلوب، تقشعرّ من حولها الجوارح.. إلى متى تبقى المراقد مهدومة، ومن زوّارها محرومة؟! أزهارٌ حطام التراب فراشها، والسماء غطاؤها.. ذا إبليس يغترّ بعمله، وتضطرم في حناياه ألسنة الحقد والبغضاء، وأتباعه نواصب، طغاة الأرض، ذيول خيلائه، باعوا آخرتهم بدنياهم، بل بدنيا غيرهم.. لكنّ البقيع يشبهكِ يا سامرّاء! نور شاء الخالق أن يكون، وأن يشرق في المدينة المنوّرة، فيتألّق مع نور محمّد (صلّى الله عليه وآله) بألق عجيب يخترق غياهب السنين، ويمرّ عبر الأئمة الطاهرين، فيصل إلى قلوب المنتظرين للماء المعين (عجّل الله فرجه الشريف) الذي سيعيد كلّ شيء إلى مكانه في زمانه الموعود بإذنه تعالى. ............................................ (1)مفاتيح الجنان: ص