رياض الزهراء العدد 194 تنمية البشرية
لا أدري
في زمن كثر فيه المتشدّقون بالعلم ومدّعو المعرفة في كلّ مجالات الحياة، وأصبح الوصول إلى كلّ شيء سهل المنال للقاصي والداني ومن مختلف المستويات، اختلط الحابل بالنابل وانقلبت الموازين، فبتنا لا نعرف الحقيقة من الزيف، حيث وصل الخداع حتى إلى المقاطع الفيديوية التي كانت الحدّ الفاصل لاعتمادنا على مقارنة الحركات مع الصوت والتعابير ومدى مطابقتها، لكن كلّ ذلك أصبح تحت خيمة التزوير والخداع. يلوح في الأفق الآن قول الإمام عليّ (عليه السلام): "مَن ترك قول لا أدري، أُصيبت مقاتله"(1)، حيث إنّنا نجد ومنذ مدّة طويلة التجارة الرائجة لبعض مَن يدّعي المعرفة الكاملة، وقد باع ضميره الإنساني بثمن دنيوي بخس، وكان قد امتلك القليل من المهارات التي مَنّ الله بها عليه، لكنّه جعلها سلعة تجارية لجني الأرباح، ولا ضير في أن يأخذ الأجر على عمله، شريطةَ أن يتقن العمل، ويخلص به لله سبحانه وتعالى، لا أن يشوّه الحقائق ويدسّ السمّ في العسل، فكلّنا نعلم أنّ زكاة العلم نشره، وهذا ما يجب أن يكون من كلّ صاحب رسالة إنسانية تخدم البشرية، لكنّنا نلاحظ بعضهم عندما يمنحه الله سبحانه الشخصية المؤثّرة، وقوة الحضور، فإنّه يتعالى على الآخرين، ويصل إلى مرحلة من الكِبر، أو ربّما الجهل المركب الذي لا يقبل معه بالاعتراف بالخطأ، فيكون أسيرًا له، وعندما يعتلي المنصّة ويكون أمام الحشود من المشاهدين وهو في خضمّ سيل المعلومات التي يبثّها من حيث يدري أو لا يدري، يرفع أحدهم يده لتوجيه سؤال للمعلّم الفطحل المتأبّط جهلًا وكِبرًا في آن واحد، فيشعر بالزهو والفخر أكثر وأكثر، وهنا تقع الطامّة الكبرى، حيث إنّه يجيب عن سؤال السائل بأيّ كلمات ترد على لسانه، بدون علم أو دقّة، فقط لكي لا تتمّ الإشارة إليه والقول بأنّه لا يعلم، فمتى كان الاعتراف بعدم المعرفة تهمة؟! ومَن الذي أصدر حكم تقليل شأن مَن يقول (لا أدرى)؟! إنّ الشعور بالغيرة القاتلة من نجاحات الآخرين، والرغبة الجامحة في امتلاك كلّ شيء من أموال، وصيت، وشهرة هي من أسباب هذه الحالة، مثلما أنّ البُعد عن الله سبحانه وتعالى، وسوء الظنّ به، وعدم القناعة لها دور كبير في وصول هؤلاء إلى تلك المستويات التي توصل المجتمع إلى شفا حفرة من الانهيار؛ نظرًا إلى تنامي المعلومات غير الصحيحة والمشوِّهة للواقع، والصادرة عمّن يحسبهم الناس قدوةً لمجرّد اعتلائهم المنصّات التجارية ذات الصوت العالي، والبهرجة اللافتة والجاذبة. حقًّا، فأنّ مَن ترك قول (لا أدري) أُصيبت مقاتله؛ لأنّه فرد من المجتمع، وما يحدث من سوء سيعود عليه بالضرر، عاجلًا أم آجلًا. ........................................... (1)نهج البلاغة: ج4، ص12.