رياض الزهراء العدد 194 شخصيات ملهمة
سيدة الموقف العظيم
ما بين وصايا أخيها وثقل الأمانة وهول المشاهد، فلنتصوّر هذا المشهد: خروجها مع الركب وهي تعلم أنّ الأمر لا رجعة فيه؛ لنتصور الوداع الأخير، وهي تعلم بأنّ الذاهبين لن يعودوا؛ لنتصور أنّه بعد ملحمة الطفّ ستهرول حاملة شموخها نحو التلّ، متأمّلة أنفاس أخيها الأخيرة بين الحيرة والحسرة، وقفت جبلًا في منتصف عصف الطفّ وإعصاره الأليم بين الكَفرة الآثمين، قتلة الوارث والكافل والأهل والأصحاب المنتجبين (عليهم السلام)، إنّها امرأة عبرت الأجساد ونهر الدماء متوجّهة إلى مصرع أخيها غريب كربلاء لتقبّل نحره، وترفع جسده الطاهر نحو السماء ليتقبّل الله القربان، وهذا سعي لإحياء الدين بعد أن كاد أن يموت. إنّها السيّدة زينب بنت عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) قدوة للنساء الأبيّات، إنّها العالمة غير المعلّمة، كيف لا تكون وقد شهد لها المعصوم بذلك، وسجّل التاريخ صلابة موقفها وخطابها أمام ألدّ أعدائها، فأشارت بيدها على الناس بالسكوت، حينها ارتدّت الأنفاس إلى الصدور، وسكنت الأجراس، كأنّ على رؤوسهم الطير. إنّها كريمة قومها، عزيزة أهلها، الجوهرة التي تربّت في بيت الرسالة، حفيدة المصطفى (صلّى الله عليه وآله)، عاشت المواقف الرسالية، وخاضت المعارك تثبيتًا لدعائم الإسلام، انطلقت مسيرتها من هذا البيت، ورافقت أمّها السيّدة الزهراء (عليها السلام)، ورأت كيف تدافع عن مقام الإمامة والخلافة وعن حقّها المسلوب، وما جرى من حرق الدار، ثم عاشت مع أبيها وهي أكثر حقبة عاشت فيها السيّدة زينب (عليها السلام) تواكب فيها أحداثًا كثيرةً، وحروبًا وانتقالات، ثم رأت ما حدث لأخيها الحسن (عليه السلام) من ظلامات، لتنتقل إلى قضية عاشوراء وواقعة كربلاء، وهي من أهمّ الأحداث التي عصفت بالأمة الإسلامية بعد شهادة رسول الله (صلّى الله عليه وآله). هذه السيّدة ليس من السهل أن تكون في هذا الحدث المفصلي، فقد ظنّ طغاة ذلك العصر أنّها مجرّد حركة تمرّد تنتهي بقتل القائد وهو الإمام الحسين (عليه السلام)، ولم يعلموا أنّ هناك سيّدةً هي صوت النهضة الحسينية، فكان لها الدور الفعّال بالكشف عمّا حدث في كربلاء, ولم تفعل ما تفعله النساء في تلك المواقف من البكاء والعويل، فعلى الرغم من كلّ ما حدث لها، ورؤيتها للمشاهد المؤلمة التي تهدّ الجبال، إلّا أنّها كانت كالعاصفة دمرّت عروش الطغاة, فعندما دخلوا على ابن زياد وأراد إذلالها في مجلسه وهو يعرف جيدًا مَن تكون، التفت ناحيتها قائلًا: مَن هذه الجالسة؟ لم تجبه استهانةً به، واحتقارًا لمكانته، فأعاد السؤال فأجابت إحدى الجالسات إنّ هذه زينب بنت عليّ (عليهما السلام)، انفعل من ترفّع السيّدة زينب وعدم جوابها، فاندفع يخاطبها غاضبًا شامتًا: "الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم"(1)، هنا برزت السيّدة زينب (عليها السلام) لبوةً حاملة شجاعة أبيها وعيبة علمه، وفصاحة أمّها وقدسيتها، قائلةً: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلّى الله عليه وآله، وطهّرنا من الرجس تطهيرًا، وإنّما يُفتضح الفاسق، ويُكذّب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله"(2) هزّت كيان ابن زياد بهذا الردّ المزلزل، وحطّمت عرشه مضيفةً: "ما رأيتُ إلّا جميلًا"(3)، أجابت بكلّ شجاعة معلنةً أنّها لا ينتابها أيّ شعور بالهزيمة والهوان ضدّ الظلم والعدوان. ثم موقفها في مجلس يزيد بكلّ شجاعة وإباء مستصغرةً قدره وسلطانه، ولا ننسى الاضطهاد النفسي والجسدي الذي مرّت به في رحلتها إلى الشام من الضرب بالسياط، ورؤية الرؤوس مرفوعة على الرماح، وثقل الأمانة، وكلام الشماتة والتنكيل، والمهرجان الذي أُعدّ لاستقبالهم؛ لكنّها خطبت وقالت: "الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله كذلك يقول:(ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون)، أظننتَ يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسراء، أنّ بنا على الله هوانًا وبكَ على الله كرامة؟!..."(4)، إذ فضحت فيها مخطّطاته التي استهدفت الإسلام، وعظيم الفاجعة التي تسبّب بها لبيت النبوّة ومعدن الرسالة، وكشفت اللثام عن الوجه الحقيقي للأمويين، إذ فوجئ يزيد بهذا الانقلاب، وتحوّل المجلس إلى ساحة محاكمة، فكان يتهرّب من الموقف قاطعًا عليها كلامها، إلّا أنّها كانت تسمو وتنتصر وهو الانتصار الأبدي لنهضة الحسين (عليه السلام)، إنّها نائبته، عقيلة الطالبيين، فخر النساء، حملت العزّ والإباء، القدوة لكلّ سيّدة حرّة أبيّة تحمل وعيًا دينيًا، وثقافةً رصينةً، إنّها بطلة كربلاء الخالدة. ....................................................... (1) الإرشاد للشيخ المفيد: ج٢، ص115. (2) المصدر نفسه. (3) بحار الأنوار: ج45، ص116. (4) مثير الأحزان، ابن نما الحلّي: ص80.